تقييد حقوق العمال يضع مصر بين الدول الأسوأ في الحريات النقابية

على الرغم من ضمان القانون لحرية تأسيس المنظمات النقابية نظريًا، إلا أن النقابات المستقلة تواجه قيودًا إدارية وقضائية، مع وجود أحكام قضائية ووثائق رسمية تؤكد رفض الاعتراف بشرعية عدد منها
Picture of شيماء حمدي

شيماء حمدي

حصلت مصر على أدنى تصنيف في مؤشر الحريات النقابية لعام 2024، الصادر عن الاتحاد العربي للنقابات، بعد حصولها على “التصنيف 5″، وهو المركز الأخير الذي يُمنح للدول الأقل التزامًا بالمعايير الدولية في الحريات النقابية وعلاقات العمل العادلة. وأرجع الاتحاد هذا التصنيف إلى 18 انتهاكًا رصدها تقريره السنوي، والذي حمل عنوان «لا ضمانات للحقوق»، موضحًا أن هذه الانتهاكات تتعارض بشكل مباشر مع الاتفاقيات الدولية التي وقّعت عليها الحكومة المصرية سابقًا.

وأشار التقرير إلى وجود تناقض واضح بين النص القانوني والتطبيق العملي لقانون النقابات العمالية (رقم 213 لسنة 2017)، فرغم أن القانون يضمن نظريًا حرية تأسيس المنظمات النقابية ويحظر التمييز في ممارستها، فإن الواقع يشير إلى عكس ذلك تمامًا؛ إذ تواجه النقابات المستقلة قيودًا إدارية وقضائية متعددة، مع وجود أحكام قضائية ووثائق رسمية تؤكد رفض الاعتراف بشرعية عدد من النقابات المستقلة. ولفت التقرير إلى أن هناك 11 لجنة نقابية لا تزال تنتظر الموافقة الرسمية على تسجيلها، مما يعكس تحديات مستمرة أمام الحريات النقابية في مصر، ويشكّل انتهاكًا واضحًا للاتفاقية رقم (87) المتعلقة بحق التنظيم النقابي.

وفيما يخص علاقات العمل العادلة، وثق التقرير حالات متعددة من التمييز بين فئات العاملين، من أبرزها حرمان العمالة المنزلية من المظلة القانونية عبر استبعادها من قانون العمل، وكذلك التمييز بين النساء والرجال في الأجور رغم تساوي الوظائف والمسؤوليات، وهو ما يشكّل خرقًا للمعايير الدولية لحقوق العمل.

كما سلّط التقرير الضوء على ظاهرة عمالة الأطفال، مشيرًا إلى أن نسبة عمالة الأطفال في مصر وصلت إلى 9.3% من إجمالي الأطفال، أي أن هناك نحو 1.59 مليون طفل يعملون من أصل 17.1 مليون طفل، وتبلغ نسبة الفتيات العاملات منهم 21%. وأوضح التقرير أن ما يقارب نصف هؤلاء الأطفال يعملون في مهن تصنف بـ”الخطرة”، ومعظمهم من الأطفال العاملين ضمن نطاق الأسرة دون أجر، ما يعكس ضعفًا شديدًا في الرقابة وتطبيق التشريعات الخاصة بحماية الطفولة.

نوصي للقراءة: سلامة العمال في مصر.. بين غياب الرقابة وتكرار الحوادث القاتلة

واقع الحريات النقابية في مصر

تعد اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم النقابي (رقم 87) إحدى الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية، التي اعتمدها المؤتمر العام للمنظمة في 9 يوليو عام 1948. وتنص الاتفاقية في مادتها الثانية على أنه: «للعمال وأصحاب العمل، دون تمييز من أي نوع، الحق في إنشاء المنظمات التي يختارونها والانضمام إليها دون ترخيص مسبق». فيما تؤكد المادة الثالثة منها على «حق منظمات العمال وأصحاب العمل في وضع أنظمتها الداخلية وانتخاب ممثليها بحرية تامة، وتمتنع السلطات العامة عن أي تدخل يحد من هذه الحقوق». أما المادة (11) فتُلزم الدول الأعضاء بـ«اتخاذ التدابير اللازمة لضمان تمكين العمال وأصحاب العمل من ممارسة حق التنظيم النقابي بحرية».

وفي السياق المصري، يقول الكاتب الصحفي هشام فؤاد، المتخصص في الشأن العمالي، إن الحكومة المصرية، رغم إقرارها مجموعة من الإصلاحات التشريعية كقانون المنظمات النقابية العمالية (رقم 213 لسنة 2017)، والتي كانت تهدف أساسًا إلى إزالة اسم مصر من القائمة السوداء لمنظمة العمل الدولية، والحصول على مساعدات مشروطة من الاتحاد الأوروبي، فإن تلك الإصلاحات بقيت شكلية ولم تطبق فعليًا على أرض الواقع.

ويضيف فؤاد، في حديثه إلى «زاوية ثالثة»، أن الحكومة ادعت تنظيم حوار اجتماعي موسّع حول مشروع قانون العمل الجديد، لكنها اقتصرت فيه على إشراك نقابيين مستقلين متوافقين معها فكريًا، بينما تم تجاهل النقابات المستقلة الحقيقية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية بشكل كامل. وأشار إلى أن نقيب الصحفيين حاول مرارًا التواصل مع وزارة العمل لحضور جلسات الحوار دون تلقي ردود إيجابية.

كما انتقد فؤاد تعامل الحكومة مع ملف العاملات، معتبرًا أنها تمارس ازدواجية واضحة؛ ففي الوقت الذي تروج فيه للمساواة بين العاملات في القطاعين العام والخاص فيما يتعلق بإجازات الوضع في مشروع قانون العمل الجديد، فإنها تجاهلت إدراج عاملات المنازل ضمن مظلة هذا القانون، رغم أنهن الفئة الأكثر احتياجًا للحماية القانونية والاجتماعية.

ويشير إلى وجود سوابق خطيرة من ملاحقة وحبس العاملات على خلفية مطالبهن الحقوقية، مستشهدًا بالقبض على أربع عاملات من شركة وبريات سمنود العام الماضي، وكذلك اعتقال عاملات الشركة الوطنية للمحميات الزراعية بأبو حماد في الشرقية، وحبسهن 15 يومًا لمطالبتهن بمنحة رمضان، قبل الإفراج عنهن الأسبوع الماضي. واعتبر أن تلك الممارسات تعكس بوضوح تراجع وضع الحريات النقابية وحقوق العمال في مصر.

واختتم فؤاد حديثه بدعوة القوى السياسية والنقابية والحقوقية إلى الضغط من أجل تحويل الإصلاحات النظرية إلى واقع ملموس، مشددًا على ضرورة الدفاع عن حق التنظيم النقابي وإزالة العقبات أمام النقابات القائمة، مثل نقابة هيئة قناة السويس، أو تلك التي تحول دون تأسيس نقابات جديدة. كما دعا إلى إحياء دور الصحافة العمالية، في ظل السيطرة الرسمية على وسائل الإعلام، وإلى عودة نموذج المحامي العمالي السياسي مثل نبيل الهلالي، لنشر الوعي الحقوقي بين العمال في ظل الظروف الراهنة.

نوصي للقراءة:  قانون العمل الجديد.. خطوة للأمام أم انتكاسة لحقوق العمال؟

قانون النقابات العمالية بين الواقع التشريعي ومأزق التطبيق

أصدرت الحكومة المصرية قانون المنظمات النقابية العمالية وحماية حق التنظيم النقابي رقم 213 لسنة 2017، استجابةً لسنوات من الانتقادات الدولية والمحلية المتعلقة بتراجع الحريات النقابية. وكانت مصر قد أُدرجت على “القائمة السوداء” لمنظمة العمل الدولية أربع مرات متتالية (2008، 2009، 2010)، ثم رُفعت من القائمة بعد ثورة يناير 2011. لكنها عادت مجددًا إلى القائمة في عام 2017، وهو العام نفسه الذي صدر فيه القانون، قبل أن  تُرفع مرة أخرى في عام 2022.

رغم رفع اسم مصر من القائمة السوداء، لم تتوقف الانتقادات الدولية والإقليمية لأوضاع الحريات النقابية في البلاد، وهو ما عكسه تصنيف الاتحاد العربي للنقابات الأخير لمصر في مؤشر الحريات النقابية.

في هذا السياق، تصف إلهام عيداروس، وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية (تحت التأسيس)، واقع الحريات النقابية وعلاقات العمل في مصر بـ”السيئ للغاية”، مشيرة إلى أنه رغم احتواء قانون 2017، المُعدل في 2019، على إشكاليات عديدة، فإنه قدّم مكسبًا ديمقراطيًا مهمًا، متمثلًا في الاعتراف بالشخصية الاعتبارية للجان النقابية لأول مرة. إذ إن القانون السابق كان يحرم هذه اللجان من الشخصية الاعتبارية، ولا يسمح لها بأي تحرك مستقل بعيدًا عن الاتحاد العام الحكومي.

وتوضح عيداروس في حديثها لـ”زاوية ثالثة” أن المشكلة الأساسية ليست في نص القانون نفسه، الذي يعد إطارًا مقبولًا بشكل عام، وإنما في سوء التطبيق والتنفيذ. فالمراحل الأولى لتطبيق القانون شهدت انتهاكات واسعة، بدءًا من مرحلة توفيق أوضاع النقابات المستقلة التي كانت خارج إطار القانون السابق، مرورًا بانتخابات النقابات العمالية في دورتي 2018 و2022، والتي تعرضت خلالها النقابات لشطب جماعي وانتهاكات متعددة رعتها وزارة القوى العاملة بنفسها، مما أدى إلى تفريغ القانون من محتواه الحقيقي.

وتضيف عيداروس أن القانون تضمّن قيودًا جديدة، أبرزها الشروط المشددة بشأن الحد الأدنى اللازم لتأسيس لجان نقابية أو نقابات عامة واتحادات، إضافة إلى ما احتواه قانون العمل من ثغرات استُخدمت لتقييد حق العمال في الإضراب، من خلال فرض شروط تعجيزية لتنظيم الإضرابات، والتوسع في تعريف الخدمات الحيوية التي يُحظر فيها الإضراب، الأمر الذي أضعف قدرة العمال على التفاوض الجماعي.

وتؤكد عيداروس أن وزارة القوى العاملة لم تكتفِ بتجاهل دورها كوسيط بين العمال وأصحاب العمل، بل تجاوزت ذلك إلى التعامل مع الاحتجاجات العمالية وفق قوانين مكافحة الإرهاب، إذ جرى القبض على عمال بتهم مثل “الانضمام لجماعة محظورة” و”نشر أخبار كاذبة”، مع استخدام الحبس الاحتياطي المفتوح بحقهم. وتختتم حديثها قائلة إن العمال في مصر اليوم محاصرون بين ثلاثة ضغوط كبيرة: استغلال القوانين المقيِّدة، وسوء تطبيق القوانين التي تبدو متوازنة، وتوظيف قوانين الإرهاب والقوانين السياسية ضد التحركات العمالية.

وفي ورقة تحليلية بعنوان “مشروع قانون الحريات النقابية نقطة تحول تاريخية في علاقة الدولة بالعمال”، نشرها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في سبتمبر 2013، اعتبر المركز أن تصاعد الاحتجاجات العمالية قبل ثورة يناير كان أحد العوامل الرئيسية في إشعال الثورة، خصوصًا مع تدهور علاقات العمل نتيجة السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي انتهجتها حكومة أحمد نظيف الثانية بوتيرة متسارعة.

وأوضحت الورقة أن نظام مبارك اعتمد على الآلة الأمنية المتمثلة في الشرطة وجهاز أمن الدولة لمواجهة الاحتجاجات العمالية، في حين لعب القانون رقم 35 لسنة 1976، المنظم للعمل النقابي آنذاك، دورًا أساسيًا في تفاقم الأزمة، إذ حرم العمال من تأسيس نقابات مستقلة، وأجبرهم على الانضواء تحت مظلة الاتحاد العام الحكومي الذي لم يكن يمثل مصالحهم، مما عطل الحلول التفاوضية وفاقم المشكلات بين العمال وأصحاب الأعمال.

وأشارت الورقة إلى أن هذا القانون كان أحد الأسباب الرئيسية لوضع منظمة العمل الدولية لمصر على القائمة القصيرة (السوداء) للدول التي تنتهك حقوق العمال في تأسيس نقابات مستقلة وديمقراطية.

نوصي للقراءة: مديونيات التأمين الصحي الشامل.. عبء إضافي يحرم المواطنين من الخدمات الحكومية

أزمة نقابة العاملين بأندية قناة السويس: نموذج لقمع الحريات النقابية

في 26 فبراير الماضي، قررت المحكمة العمالية بالإسماعيلية إحالة الدعوى التي أقامتها اللجنة النقابية للعاملين بأندية هيئة قناة السويس إلى خبير مقيم، وذلك لفحص أوراق القضية والمستندات المقدمة من كافة الأطراف.

وتعود تفاصيل الدعوى القضائية إلى قرار إدارة أندية هيئة قناة السويس وقف نشاط اللجنة النقابية وعدم الاعتراف بها، بعدما امتنع رؤساء مجالس إدارات الأندية الثلاثة التابعة للهيئة عن توريد الاشتراكات المستحقة للنقابة، في محاولة وصفتها النقابة بأنها “خطوة مباشرة لتصفيتها”.

وأكد بيان اللجنة النقابية أن القضية لا تقتصر على البعد القانوني، بل هي جزء من نضال مستمر للدفاع عن الحق المشروع في التنظيم النقابي المستقل، مشيرًا إلى تعرض النقابة بشكل متكرر للتضييق والتنكيل. وأوضح البيان أن وزارة العمل تمارس ضغوطًا على النقابة أعاقت قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه أعضائها، بما في ذلك صرف رواتب العاملين وتأمين مقر النقابة ومرافقه، فضلًا عن اقتطاع اشتراكات شهر فبراير الماضي من رواتب العاملين دون تحويلها إلى حساب النقابة حتى اللحظة.

وفي حديث خاص لزاوية ثالثة، يرى كرم عبد الحليم، رئيس نقابة العاملين بأندية هيئة قناة السويس، أن التقرير الأخير الصادر عن الاتحاد العربي للنقابات عكس الواقع المؤلم للحريات النقابية في مصر، معتبرًا أن ما حدث مع نقابته من وقف نشاط ومنع توريد الاشتراكات وتواطؤ مديرية العمل بالإسماعيلية مع صاحب العمل، يشكّل نموذجًا واضحًا لقمع الحريات النقابية وانتهاكًا صريحًا للمواثيق الدولية وقانون المنظمات النقابية رقم 213 لسنة 2017.

ويشدد عبد الحليم على أن الحل بسيط ويتمثل في التزام الحكومة، ووزارة العمل على وجه الخصوص، باحترام الدستور المصري والقوانين والمواثيق الدولية التي وقعت عليها. ويؤكد أن ممارسات وزارة العمل على أرض الواقع تتناقض مع تصريحاتها التي تزعم احترام الحريات النقابية، خاصة في تعاملها مع النقابات المستقلة، ومحاولاتها المستمرة لإضعاف إرادة الجمعيات العمومية والتدخل في عملها من قبل جهات لا علاقة لها بالشأن النقابي.

ويلفت عبد الحليم إلى أن تصاعد الإضرابات والاعتصامات داخل المصانع والشركات سببه الرئيسي هو غياب النقابات القادرة على التفاوض نيابة عن العمال مع أصحاب الأعمال، الذين يستفيدون من هذا الفراغ. ويصف وزارة العمل بأنها تحولت إلى وزارة “تأميم” العمل النقابي في مصر، رغم نفيها المتكرر أمام منظمة العمل الدولية حدوث أي انتهاكات.

ورغم أن وزير العمل الحالي كان عضوًا سابقًا في اتحاد عمال مصر (الاتحاد الحكومي)، يرى عبد الحليم أن المرحلة الراهنة هي الأسوأ في تاريخ الحريات النقابية والعمل النقابي المستقل في البلاد. وأشار إلى تقارير دولية وإقليمية عدة وثقت تلك الانتهاكات، لافتًا إلى أن مؤتمر حقوق الإنسان الأخير في جنيف ناقش لأول مرة قضية قمع الحريات النقابية في مصر، بحضور ممثل حكومي هو مستشار وزير العمل، في محاولة رسمية لنفي هذه الحقائق. وأكد عبد الحليم أن الحل ليس في إنكار الواقع، بل في احترام الدستور وتطبيق بنوده بشكل حقيقي على أرض الواقع.

ويوضح عبد الحليم أهمية النقابات في تحقيق استقرار المجتمع، عبر دورها في التفاوض المباشر مع أصحاب العمل وتخفيف حدة الإضرابات، لكنه يشير إلى أن مشروع قانون العمل الجديد الذي يناقشه البرلمان حاليًا، يحتوي على مواد تقيّد حقوق العمال والنقابات، وخاصةً ما يتعلق بالإضرابات وخفض الرواتب والعلاوات، مما يتعارض مع الدستور والمواثيق الدولية.

يُذكر أن الدستور المصري ينص في المادة 76 على أن “إنشاء النقابات والاتحادات على أساس ديمقراطي حق يكفله القانون. وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتمارس نشاطها بحرية، وتسهم في رفع مستوى الكفاءة بين أعضائها والدفاع عن حقوقهم وحماية مصالحهم. وتكفل الدولة استقلال النقابات والاتحادات، ولا يجوز حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، ولا يجوز إنشاء أي منها بالهيئات النظامية”.

وكانت مصر قد حصلت مؤخرًا على التصنيف الأسوأ في مؤشر الحريات النقابية الصادر عن الاتحاد العربي للنقابات، في الوقت الذي يستكمل فيه مجلس النواب مناقشة مشروع قانون العمل الجديد، وسط اعتراضات واسعة على مواده التي تُعد انتكاسة لحقوق العمال والحريات النقابية.

شيماء حمدي
صحفية مصرية، تغطي الملفات السياسية والحقوقية، وتهتم بقضايا المرأة. باحثة في حرية الصحافة والإعلام والحريات الرقمية.

Search