حين تختبئ السلطة في الظل: قراءة نقدية في مفهوم “الدولة العميقة”

في هذا المقال التحليلي، يفكك الكاتب أشرف راضي مفهوم “الدولة العميقة”، موضحًا كيف تتحرك الشبكات غير الرسمية في قلب الدول الحديثة، متسائلًا: هل هي حامية للديمقراطية أم قيد على الإرادة الشعبية؟
Picture of أشرف راضي

أشرف راضي

عاد مصطلح “الدولة العميقة” إلى التداول في الخطاب السياسي والشعبي الأمريكي بعد فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة في خريف عام 2024. وقد استخدمه مؤخرًا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تغريدة نشرها في 19 مارس الماضي، قال فيها: “عندما يفوز زعيم قوي من اليمين في الانتخابات، تستغل ’الدولة العميقة‘ اليسارية نظام العدالة بشكل خاطئ لإحباط إرادة الشعب”.

أراد نتنياهو بهذه التغريدة بناء قضية مشتركة مع الرئيس الأمريكي، والاستفادة من رواج المصطلح في الأوساط الشعبية الأمريكية لتمرير الانقلاب على النظام القضائي في إسرائيل، الذي يراه عقبة أمام إعادة رسم الخريطة السياسية هناك.

غير أن الزخم الذي اكتسبه المصطلح في السنوات الأخيرة جاء مواكبًا لصعود التيارات السياسية الشعبوية واليمينية في الديمقراطيات الغربية، على نحو يشير إلى إساءة استخدام هذا المصطلح، الذي ظهر في الأصل في تركيا في تسعينيات القرن الماضي، في خضم الصراع بين القوى الإسلامية الراغبة في تفكيك النظام العلماني، وبين المؤسسات التي تحمي هذا النظام، وعلى رأسها الجيش والقضاء.

والحقيقة أنه قد أُسيء استخدام المصطلح بالفعل لأغراض سياسية قبل ذلك بسنوات؛ ففي مصر، استخدمت جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها مصطلح “الدولة العميقة” ضد القوى التي ساهمت في الإطاحة بالرئيس محمد مرسي وبحكم الجماعة، الذي استمر لفترة قصيرة بين عامي 2012 و2013.

ولا يغيّر من هذه الحقيقة استخدامه من قبل جماعات معارضة أخرى، لا سيما الجماعات المتأثرة بالفلسفات الفوضوية والتحررية، التي ترى في فكرة الدولة والحكومات اعتداءً على حرية الأفراد، أو تلك التي تعارض اعتماد الدولة المفرط على الأجهزة الأمنية لإدارة شؤون الحكم، على حساب الهيئات والمؤسسات المدنية.

لكن خطورة هذا المصطلح لا تكمن فقط في إساءة استخدامه، ولا في توظيفه لأغراض سياسية، أو في غموضه الذي يُقلّل من قيمته التحليلية وإمكاناته التفسيرية، على الرغم من انشغال قطاع لا بأس به من الباحثين في مجال السياسة المقارنة ونُظم الحكم طوال العقد الأخير؛ وإنما تكمن أيضًا في كونه مصطلحًا مُضللًا، إذ إن استخدامه قد يؤدي إلى استنتاجات خاطئة فيما يخص التحليل السياسي لكثير من الحوادث أو الظواهر السياسية.

إلا أن غموض المصطلح ناتج أساسًا عن غموض مفهوم الدولة ذاته. فالمفهوم الحديث للدولة كمنظومة سياسية واضحة المعالم لم يتبلور إلا في القرن السادس عشر، بعد صلح وستفاليا عام 1648، الذي استهدف الحفاظ على القوميات وعلى الحدود فيما بينها، ووضع أطر واضحة للعلاقات بين الدول بعضها ببعض، وبينها وبين شعوبها.

وعلى الرغم من أن الدولة أصبحت أهم أشكال التنظيم السياسي والقانوني للمجتمع، وركيزة أساسية لشرعية السلطة وممارسة السيادة الوطنية، والمعبر الذي تمارس من خلاله سلطتها من أجل توحيد المجتمع، الذي تزداد احتمالات تعرضه للفوضى والانفجار والانحلال بدون توسط الدولة في العلاقة بين مكوناته وتنظيمها؛ فإن الأطر المنظمة للدولة وعلاقاتها تتعرض لتغيرات جوهرية نتيجة للتطورات على الصعيد العالمي وعلى الأصعدة الوطنية، الأمر الذي زاد تعريف الدولة غموضًا.

إلا أن مصطلح “الدولة العميقة”، بغض النظر عن طريقة توظيفه، قد يساعد على بلورة مفهوم الدولة ويعيد تعريفها بما يتماشى مع ترسيخ الديمقراطية وتعميقها. لكن من المهم، في كل الأحوال، فهم الملابسات التي يُستخدم فيها المفهوم، كما أنه يساعد في فهم طبيعة أزمة الدولة في النظم العربية، لا سيما النظم الاستبدادية؛ ذلك أن هذا المفهوم، إذا وُضع له تعريف منضبط، قد يساهم في وضع تصورات عملية لتفكيك الدولة الاستبدادية التي تشكّلت في منطقة الشرق الأوسط، دون تفكيك الدولة ذاتها، ويساعد على إعادة بنائها كإطار مؤسسي ينظم العلاقات بين مكونات المجتمع وقواه الفاعلة، وفق أسس ديمقراطية، لصالح المواطنين. ومن ثم، فإن بلورة هذا المفهوم تستحق ما يُبذل من جهود لهذا الغرض.

 

نوصي للقراءة: في ذكرى تنحي مبارك: هل كان القرار استجابةً لمطلب الثوار أم حفاظًا على النظام والدولة؟

الدولة والدولة العميقة في السياق العربي

أشار بعض الدارسين العرب إلى أن عدم وجود تعريف محدد لمصطلح “الدولة العميقة” يحد من قيمته التفسيرية في فهم بعض الجوانب المتعلقة بممارسة السلطة، خصوصًا في تجربة الدولة في العالم العربي. إلا أن المشكلة تكمن أصلًا في أن مفهوم الدولة ذاته غامض، لا سيما في الفكر السياسي العربي والإسلامي، على النحو الذي بيّنته العديد من الدراسات، ومن أبرزها دراسة وائل حلاق عن “الدولة المستحيلة”، ودراسة هبة رؤوف عزت عن “الخيال السياسي عند الإسلاميين”، أو تلك الدراسات التي تناولت أزمة الدولة العربية، خصوصًا فيما يتعلق بعمليات بناء الدولة وترسيخها، مثل دراسات نزيه الأيوبي، أو تلك التي تناولت إخفاق عمليات مأسسة الدولة في المنطقة، مسترشدة بالخبرة الغربية.

وترتبط هذه المشكلة ارتباطًا وثيقًا بالعلاقة المرتبكة مع مشروع الحداثة الغربي، ذلك أن الدولة القومية الحديثة هي واحدة من المنتجات الرئيسية لهذا المشروع، وهي منتج لم ينبع من تجربة المجتمع العربي وخبراته، ولا تمثل امتدادًا لتاريخه الطويل، حسبما يرى برتران بادي، الذي ينظر إلى الدولة العربية الحديثة باعتبارها منتجًا حداثيًا “مستوردًا”.

لقد حاولت النخب الحاكمة في الدول ما بعد الاستعمارية استبدال فكرة الحداثة بعمليات التحديث، التي جرى خلالها وضع برامج عملية قابلة للتطبيق، استنادًا إلى قيم الحداثة. ووفق هذه البرامج، يُنظر إلى الدولة باعتبارها قائدة لمشروع التحديث والتنمية، الأمر الذي منحها استقلالية ضرورية في مواجهة القوى الاجتماعية بشكل عام، والقوى الاجتماعية التقليدية على وجه الخصوص. وهذه الاستقلالية تجعل فكرة “الدولة العميقة” بلا معنى في الخبرة العربية.

كذلك، يزداد مفهوم الدولة غموضًا نتيجة التغيرات المتسارعة في العالم، التي تعيد تعريف الدولة ومؤسساتها، في وقت يحتدم فيه الصراع من أجل السيطرة عليها، لكونها الكيان الذي لا يزال يتمتع بالحق المشروع في احتكار أدوات الإكراه والعنف، ولأنها المعبر عن فكرة السيادة الوطنية. وهذا ما يمنحها مشروعية استخدام القوة في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، ويجعلها لاعبًا أساسيًّا على المستويين المحلي والعالمي، على الرغم من ظهور كيانات وهيئات، داخلية وعابرة للحدود، تتنافس معها على بعض الأدوار والوظائف.

وعليه، فإن الحاجة إلى مراجعة مفهوم “الدولة العميقة” تبدو أكثر أهمية في حالة البلدان العربية والإسلامية بشكل خاص، للحيلولة دون استخدامه كمسوّغ لتفكيك مؤسسات الدولة، في وقت يحتدم فيه النقاش حول أزمة بناء الدولة، وما يتطلبه ذلك من إصلاحات ضرورية، خصوصًا في ضوء المخاطر الكبيرة المترتبة على هشاشة الدولة أو ضعفها أو فشلها، وهي مخاطر تكشفها الأوضاع القائمة في بلدان مثل اليمن، وليبيا، وسوريا، والسودان.

ويرجع ذلك إلى سببين:
الأول، أن تفكيك هذه المؤسسات قد يعرّض الدولة ومقدّراتها لمخاطر خارجية وداخلية، بهدف تعطيل وظيفتها الأساسية المتمثلة في تحقيق الأمن، والتصدي للتهديدات الداخلية والخارجية، وفرض النظام العام الذي يوفر الحماية للمواطنين.
والسبب الثاني، أنه لا توجد ضمانة، لا سيما في ضوء الخبرة التركية مع رجب طيب أردوغان، بأن المؤسسات الجديدة ستكون مصممة بحيث توفر ضمانات لحقوق المواطنين وحرياتهم، وتسمح بتداول السلطة عبر الانتخابات.

إن أي محاولة لضبط مصطلح “الدولة العميقة” لا بد أن تطرح إشكاليات عديدة تتعلق بالنظريات المختلفة عن الدولة، وعلاقتها بمسألتي السلطة والشرعية، وقدرتها على صياغة مفهوم للمصلحة العامة في مواجهة المصالح الخاصة المتباينة للقوى الاجتماعية المتصارعة، ومدى الاستقلالية التي تتمتع بها في مواجهة هذه القوى.

ولهذا النقاش صلة وثيقة بمفهوم الدولة الديمقراطية، وبالمفاهيم الحديثة للمواطنة، التي تتسق مع رؤية للدولة كضامن لحرية الأفراد وحقوقهم في مواجهة طغيان القوى الاجتماعية واستبدادها.

في وضع كهذا، هل نحن بحاجة إلى مفهوم “الدولة العميقة”؟ أم أن هذا المفهوم يعيق تطوير نظرتنا إلى الدولة، ودورها، ووظائفها، وحدود سلطتها، في مواجهة الأفراد والقوى الاجتماعية المختلفة، في هذه المرحلة من مراحل تطوّر البشرية؟

قد تفيد الدراسات الأكاديمية حول موضوع “الدولة العميقة” في ضبط هذا المصطلح على نحو يكشف إمكاناته التفسيرية والتحليلية، خصوصًا أن كثيرًا من هذه الدراسات يركّز على الفروق بين الدولة، بأشكالها المختلفة، بما في ذلك الدولة الاستبدادية، وبين “الدولة العميقة”، لا سيما في ظل أزمة الدولة الوطنية في السياق العربي، والتي تعاني من أوجه ضعف وهشاشة ملحوظة، رغم أنها “مركزية” و”متضخمة”.

كذلك، تفيد الدراسات التي تميّز بين مفهومي السلطة والقوة، وتحلل الهياكل الرسمية للسلطة وهياكلها غير الرسمية في الدولة العربية والشرق أوسطية المعاصرة، في فهم آليات تشكل “الدولة العميقة” ومدلولاتها ضمن خبرة الدولة العربية والشرق أوسطية، التي تتسم بسمة تكاد تكون مشتركة وغالبة، نتيجة لضعف المأسسة، وما تتسم به من نمط فردي في ممارسة السلطة، يعتمد على الزعيم أو “الرجل القوي”.

ففي دراسة لاختبار مفهوم الدولة العميقة في إيران، نُشرت في دورية فورين أفيرز، في عدد مايو/يونيو 2017، أُشير إلى أن وفاة الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي ستمثّل أكبر تغيير سياسي في الجمهورية الإسلامية، لكونه أقوى شخصية في إيران، ويتمتع بحكم منصبه بسلطة مطلقة على جميع مفاصل الدولة. ومن ثم، قد يُحدث تولّي شخص جديد لهذا المنصب تغييرًا جذريًا في توجهات وسياسات إيران الخارجية والداخلية. غير أن الحالة الإيرانية قد تكون مضللة، نظرًا للطبيعة الخاصة لنظامها السياسي ومرجعيته الفقهية، التي استدعت ترتيبات دستورية تقوم على فكرة استحداث مناصب يشغلها أشخاص غير منتخبين، يتمتعون بصلاحيات واسعة وسلطة أعلى من السلطة المنتخبة، ويمارسون دورًا رقابيًا وتوجيهيًا على السلطات المنتخبة.

لكن هذا التركّز للسلطة في يد الزعيم أو “الرجل القوي” هو سمة أساسية في نظم أخرى، ملكية وجمهورية، يُعبَّر عنها برهان كثير من المراقبين المحليين والأجانب على التغييرات الكبيرة التي أحدثها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، استنادًا إلى الصلاحيات الواسعة التي فوضه بها والده، الملك سلمان بن عبد العزيز، العاهل السعودي، والتغيرات المنتظر حدوثها بعد تنصيبه ملكًا.

كذلك، شهدت دولة مركزية مثل مصر تحولات جذرية وعنيفة في التوجه السياسي والاقتصادي للدولة مع انتقال السلطة من الرئيس جمال عبد الناصر إلى الرئيس أنور السادات، ومنه إلى الرئيس حسني مبارك، ثم انتقالها أخيرًا إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي، مع استمرار ممارسة السلطة، رغم عدم إحداث تغييرات جوهرية في بنية النظام.

والأمر ذاته ينطبق على دول أخرى في منطقة الخليج وشمال أفريقيا، لا سيما الجزائر، حيث تعاني مؤسسات الدولة ضعفًا في مواجهة الزعيم القوي الذي يعيد تشكيلها وصياغتها ضمن الحدود التي تسمح بها موازين القوى، وقدرته على السيطرة على المؤسسات التي تتركّز فيها السلطة، وخصوصًا الأجهزة الأمنية.

إن “الدولة العميقة” هنا لا تتدخل أو تظهر إلى العلن، إلا في الحالات التي تكون فيها مهددة بتغيير الملامح الأساسية للسلطة وآليات ممارستها، أو في الحالات التي تتهدد فيها مصالح الشخصيات النافذة في هياكل وشبكات السلطة غير الرسمية، أو القادرة على التأثير في علاقات القوى.

 

نوصي للقراءة: من يرسم الطريق إلى سوريا الجديدة؟

محاولة لضبط المفهوم

إذا رجعنا إلى تركيا، باعتبارها النموذج الأصلي والمثالي الذي نشأ فيه مفهوم “الدولة العميقة”، يُلاحظ أن مؤسسات الدولة تضم “نواة من الموالين المتعصبين” للقومية العلمانية التي صاغها مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، على أنقاض ما تبقّى من ممتلكات الدولة العثمانية في منطقة آسيا الصغرى والأناضول.

وهناك مؤشرات مادية تدعم هذا الافتراض، تتمثّل في سلسلة الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا منذ عام 1960، على الحكومات المنتخبة المتعاقبة، خصوصًا تلك الحكومات التي حاولت إدخال إصلاحات تمسّ الأسس التي قامت عليها الجمهورية. وتتفق الدراسات المختلفة على أن “الدولة العميقة” في حالة تركيا تشير إلى شبكة من الأفراد في مختلف فروع الحكومة، تربطهم صلات بجنرالات متقاعدين وعصابات الجريمة المنظمة، وتعمل دون علم كبار الضباط العسكريين والسياسيين.

وعليه، فإن “الدولة العميقة” في تركيا، وفقًا لأحد الدارسين، تعبّر عن شبكة سرية “مفترضة” تضم ضباطًا كبارًا في الجيش وشخصيات مدنية، قمعوا، على مدى عقود، المعارضين وأي شخص يُعتقد أنه يشكّل تهديدًا للنظام العلماني، وقد يلجؤون إلى قتل المعارضين أحيانًا. ويُذكر أن هذه المجموعة تُعد بمثابة “حكومة ظل” تنشر الدعاية لإثارة الخوف العام أو لزعزعة استقرار الحكومات المدنية التي لا ترضى عن سياساتها. غير أن كثيرًا من ملامح هذه الدولة بدأت في التآكل نتيجة لسياسات أردوغان.

وقد لوحظ، مع التوسّع في استخدام مصطلح “الدولة العميقة”، وجود تباين في الدلالات التي يشير إليها، نظرًا للتباين بين الأنظمة السياسية، ومستويات التطور السياسي، وتنوع الثقافات واختلافها. وتتفق الدراسات الأكاديمية على أن تركيا ودول الشرق الأوسط هي منشأ هذا المصطلح، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة، في استثناء ملحوظ، حسبما يشير عالم السياسة المتخصص في دراسة مصر ودول الشرق الأوسط، روبرت سبرنجبورج، الذي يؤكد أصول انطباق المصطلح بشكل خاص على سياسات تلك المنطقة.

ويشير سبرنجبورج إلى مصر، حيث قوضت البيروقراطية والجيش وأجهزة الأمن حكم جماعة الإخوان المسلمين، وعملت على “إدامة النظام السياسي الذي يهيمن عليه الجيش”. غير أن هذه الفرضية تحتاج إلى مراجعة وتدقيق، إذ إنها تختزل الصراع على السلطة في مصر، في أعقاب ثورة عام 2011، في الصراع بين الإخوان و”الدولة العميقة”، وتميل إلى تهميش دور القوى الاجتماعية والقوى السياسية الأخرى.

لكن من المهم الالتفات إلى الفارق الذي يلاحظه سبرنجبورج بين الحالتين المصرية والتركية فيما يخص “الدولة العميقة”؛ ففي حالة تركيا، لا يُنظر إلى “الدولة العميقة” السرية على أنها أداة حكم مباشرة تحت تصرّف النظام القائم، بل كشبكة مستقلة تنتحل لنفسها الحق والسلطة في تحديد المعايير التي يمكن للحكومة أن تعمل في إطارها. أما في مصر، فهي امتداد للنظام، وتتطابق مع الشبكة المؤسسية الرسمية إلى حد كبير، وتعتمد عليها في تنفيذ حكمها. ففي النموذج المصري، فإن النظام الرسمي و”الدولة العميقة” وجهان لعملة واحدة.

ويرى سبرنجبورج أن النموذج المصري أكثر تعبيرًا عن السمة الغالبة لسياسات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تصبح “الدولة العميقة” دولة “حقيقية”، تُشكّل إما المؤسسات والشبكات التي يحكم النظام من خلالها، أو كليهما. وهذا المفهوم لا يقتصر على الدول العربية فقط.

ورغم هذا التباين، فإن المصطلح يُستخدم، بشكل أساسي، ليشير إلى جهة أو قوى غير مرئية تقف وراء أحداث ذات طابع سياسي وأمني معقّد، لا تفسّرها المعطيات المطروحة في لحظة وقوعها. وهو ما قد يوحي بوجود قوى تتآمر في الخفاء للتأثير في مجريات الأحداث، مما يربط مفهوم “الدولة العميقة” بنظرية المؤامرة أو التفسيرات التآمرية للأحداث، التي لا تُسهم في تقديم تفسيرات مقنعة أو صالحة لبناء سياسات سليمة استنادًا إليها.

كذلك، قد يُستخدم المصطلح أيضًا من قبل القوى الراغبة في إحداث تغييرات جذرية في بنية الدولة، لا تمسّ السياسات العامة فحسب، بل تشمل أيضًا الترتيبات الدستورية والممارسات السياسية المستقرة لعقود، بهدف تعزيز سيطرة قوى المعارضة الجذرية على السلطة بشكل كامل، أو لوضع قواعد جديدة لممارستها. وقد تلجأ هذه القوى إلى استخدام المصطلح بغرض تفكيك مؤسسات الدولة، بزعم أن المسيطرين عليها يعارضون التغيير المنشود.

وهكذا، يُزج بالمصطلح في الخطاب السياسي المحتدم بشأن الديمقراطية، وحدود الصلاحيات التي تتمتع بها الحكومات المنتخبة في مواجهة الدولة ومؤسساتها، لا سيما المؤسسات الأمنية، التي لا تخضع غالبًا لأي شكل من أشكال الرقابة والمحاسبة، وتتخيّل نفسها كمؤسسات فوق الدولة والقانون.

الخلاف هنا لا يقتصر على المستوى السياسي، بل يمتدّ إلى الجهاز البيروقراطي المكلّف بإدارة شؤون الدولة باستقلالية، في مواجهة القوى السياسية والاجتماعية المختلفة، من أجل الحفاظ على هذه المؤسسات وعلى كيان الدولة ذاته. ولا توجد مشكلة إذا كانت هذه المؤسسات تضمن التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات وتعمل على تأمينه، لكن المشكلة تنشأ حين تعرقل هذه المؤسسات الانتقال السلمي للسلطة، أو حين تسعى القوى الراغبة في تفكيكها إلى بناء مؤسسات بديلة وترتيبات تضمن لها السيطرة على الدولة.

إن فكرة استقلالية الدولة عن القوى الاجتماعية المختلفة وتفضيلاتها، كما تطرحها النظريات الحديثة، خصوصًا نظريات الدولة الديمقراطية، تجعل من التمييز بين “الدولة العميقة” و”الدولة” تمييزًا فاقدًا للمعنى، سواء تأسست هذه الاستقلالية على فكرة “جهل” الجمهور العام بشؤون الحكم، أو على مفهوم الهيمنة الأيديولوجية للدولة، الذي يشير إلى تغلغل أيديولوجية الدولة في قطاعات أوسع وأبعد من أولئك المنخرطين مباشرة في شؤون الحكم أو في الشأن السياسي العام، لا سيما السياسيين المحنكين، وهم قلة نسبيًا.

لكن هذه النظريات الحديثة، التي تركز على علاقة الدولة بالمجتمع، وعلى طبيعة الدولة ووظائفها، والتحولات التي أثّرت فيها، خصوصًا تلك المرتبطة بالثورة العلمية التكنولوجية، وثورة الاتصالات، وتطور العلاقات الدولية في مرحلة العولمة، التي أفرزت قوى منافسة للدولة، تطرح تساؤلات جوهرية حول مدى وجود ما يُسمى “الدولة العميقة” فعليًا، ككيان يعمل بالتوازي مع الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، أو يعمل باستقلال عنها.

فما الذي تعنيه “الدولة العميقة” في ضوء التحولات الجارية في مفهوم الدولة، ودورها، ووظائفها؟
وما الذي تعنيه في البلدان النامية، التي تعاني من أزمة في بناء الدولة، وتشهد في الوقت نفسه نمطًا استبداديًا في ممارسة السلطة، وتضخّمًا في جهاز الدولة البيروقراطي، الذي تتكون له مصالح خاصة في مواجهة القوى الاجتماعية المختلفة؟

وهل “الدولة العميقة” هي ما يُطلق عليه البعض “الدولة الموازية”، أو “الدولة داخل الدولة”، أو “دولة الظل”، وغيرها من المصطلحات والتعبيرات التي تشير إلى وجود هياكل غير رسمية وغير مرئية للسلطة، يتحكّم القائمون عليها في القرارات الحاسمة في الدولة، ويمتلكون القدرة على تنفيذها؟

وهل إشكالية “الدولة العميقة” مطروحة فقط في الأنظمة الديمقراطية، التي تتوافر لديها آليات تنظم عملية التداول السلمي للسلطة؟

تستدعي هذه التساؤلات نظرةً أكثر دقة للمفهوم من أجل ضبطه، وهو أمر يتطلب أيضًا التمييز الذي يصرّ عليه كثير من الدارسين بين مفهوم “الدولة العميقة” والمفاهيم الأخرى التي قد تتداخل معه. ذلك أن ظهور هذا المصطلح أثار إشكاليات حول علاقته بمختلف الأنظمة السياسية.

فمن ناحية، يعتبره البعض وليدًا للأنظمة الاستبدادية وامتدادًا لأجهزة حكمها، وأنه قد يعيق قيام نظام ديمقراطي متماسك. بينما يرى آخرون أن ثغرات النظام الديمقراطي قد تجعله فريسة سهلة أمام مطامع “الدولة العميقة”. في المقابل، يرى فريق ثالث أن هذه “الدولة العميقة” تمثل ضمانة أساسية لاستمرار الديمقراطيات، لأنها تعني وجود جماعات وهيئات أو مؤسسات داخل الدولة مهمتها الحفاظ على الترتيبات القائمة وضمان انتظام العمل، وتمتلك صلاحيات واسعة تمكّنها من تحقيق هذا الهدف.

الفكرة الأساسية هنا هي افتراض أن الدولة، حتى لو سلّمنا بالنظرية التي ترى أنها أداة بيد القوة أو الطبقات الاجتماعية المسيطرة، تحظى في الوقت نفسه باستقلالية نسبية في مواجهة هذه القوى التي تدافع الدولة عن مصالحها ضد قوى أخرى.

وتجدر الملاحظة، في هذا السياق، إلى أن مصطلح “الدولة العميقة” لا يُستخدم غالبًا في حالة الثورات، لأن الدولة وأجهزتها وأدواتها تصبح موضوعًا للصراع السياسي والاجتماعي، الذي يُعيد ترتيب السلطة وعلاقات القوى داخل المجتمع.

وعلى الرغم من محاولات إعادة النظر في مفهوم الدولة في ظل التغيرات المترتبة على العولمة الموجّهة بعملية التوسع الرأسمالي والمحكومة بآليات السوق، فإن الدولة تظل أفضل آلية متاحة لإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى “الدولة العميقة” بوصفها حالة يتم فيها اللجوء إلى أدوات وأساليب طارئة لممارسة السلطة في ظل انقسام حاد داخل المجتمعات، نتيجة احتدام الصراع الاجتماعي أو الأيديولوجي، أو لمنع تفجّره في شكل حرب أهلية مفتوحة. وقد تشير كذلك إلى تغلغل جماعات مهمتها الحفاظ على كيان الدولة وعملياتها الأساسية، في حالة احتدام الصراع بين القوى السياسية المتنافسة، مستفيدة من نفوذها داخل مفاصل الدولة ومؤسساتها وتفرعاتها، وكذلك في المجتمع وكياناته.

وتختلف “الدولة العميقة” أيضًا عن احتكار القوى الاجتماعية المسيطرة للدولة ومؤسساتها، وامتلاكها الوسائل والأدوات التي تمكّنها من فرض إرادتها على الجميع. كما أنها تختلف عن الهيكل غير الرسمي للسلطة، الذي يعبّر عن هذا الاحتكار، ويعمل وفق بوصلته الخاصة، بغضّ النظر عمّن يتولى السلطة رسميًا، لكنه يمرّر قراراته عادةً من خلال السلطة الرسمية المرئية، التي تملك شرعية إصدار القرار.

إن وجود هذه الدولة هو ما يمنح القرارات الجوهرية والحاسمة استقرارها واستمراريتها. لكنها لا تمارس سيطرتها على مسؤولي الدولة الظاهرة بصورة دائمة ومستمرة، بل بشكل موسمي ومتقطع، وهي تفعل ذلك من خلال توفير الحماية لكبار الموظفين، وتضمن لهم الإفلات من عواقب تقصيرهم المتكرر.

بهذا المعنى، تصبح “الدولة العميقة” أحد أعلى أشكال الإدارة العامة، حيث يقوم الجهاز الإداري عبرها بتسيير شؤون الدولة المستمرة، بغضّ النظر عن التغيّرات في المستوى السياسي الذي يمتلك السيطرة الرسمية على عمليات اتخاذ القرار. وقد يُمنع هذا الجهاز، بموجب سلطات السياسيين المنتخبين، من التصرف على نحو مستقل، أو على الأقل على نحو يتعارض مع السياسات العامة التي تضعها الحكومة المنتخبة، التي تعمل عادةً على الحفاظ على استقرار الجهاز الإداري ودمجه في عملية صنع القرار. وهذه مسألة ترتبط بدرجة مأسسة الجهاز الإداري، وقوته، واستقلاليته، في النظم الديمقراطية المتقدمة والراسخة.

تظهر المشكلة في البلدان النامية، حيث ينخفض مستوى مأسسة الجهاز الإداري وتتراجع قدرته على تسيير شؤون الدولة واتخاذ القرارات باستقلالية، الأمر الذي يمنح شبكات المصالح ومراكز القوى، التي تتشكّل في ظل الفراغ المؤسسي، مساحة كبيرة للتحرك باستقلالية دفاعًا عن مصالحها الخاصة. ويعود ذلك إلى ضعف المأسسة، الذي ينسحب أيضًا على المستوى السياسي، وعدم ترسّخ “الحكم الرشيد”، مما يفتح الباب لتشكّل شبكات مصالح تضم جماعات منظّمة غير رسمية في مختلف مؤسسات الدولة: المدنية، والعسكرية، والسياسية، والإعلامية، والأمنية، وقد تتجاوز حدود الدولة وتكون لها امتدادات خارجية.

وفي هذه الحالة، قد تعبّر “الدولة العميقة” عن كيان يعمل خارج الأطر الشرعية والقانونية للسلطة. وتقدّم دول الشرق الأوسط حالة نموذجية تاريخيًا ومعاصرًا، وهي حالة ناجمة عن حقيقة أن الموارد اللازمة لبناء هذه الدول واستمرارها لها منشأ خارجي بالدرجة الأولى، وليست مُولّدة أو مُستخلَصة من داخل الاقتصادات السياسية الوطنية.

وقد جُني بعض هذه الموارد عن طريق النهب والغزو، كما في حالة المماليك؛ أو من خلال القوى الاستعمارية، كما في حالة الدول التي كانت مستعمَرة؛ أو من خلال الريع المستمد من صادرات الوقود الأحفوري أو النفوذ الجيوسياسي، كما في حالة دول ما بعد الاستعمار وما بعده. وهكذا، لم تكن أهداف الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتمثل في أداء المهام الثلاث الأساسية للحكم: توفير الأمن للسكان ككل، وتطوير الاقتصاد الوطني، وبناء مجتمعات واقتصادات وأنظمة سياسية شاملة؛ بل كان هدفها يتمثل في فرض السيطرة على شعوب قد تكون متمردة.

ويُلاحظ أن هناك جماعات ومؤسسات وأجهزة داخل الدولة قد تلجأ إلى مثل هذه الممارسات لتحقيق أهداف تحول الاعتبارات القانونية والمؤسسية دون تحقيقها. وتمنح الدول، في معظم الحالات، مساحة كبيرة من الاستقلالية للأجهزة الأمنية، فضلًا عن أن الطبيعة السرية لعمل هذه الأجهزة تجعلها منفصلة إلى حدٍّ ما عن بقية مؤسسات الدولة: القضائية، والتشريعية، والتنفيذية، ولا تخضع لرقابة كاملة من هذه المؤسسات، لاعتبارات تتعلق بحماية الأمن القومي.

والأفضلية التي تتمتع بها هذه الأجهزة والمؤسسات الأمنية قد تحوّلها إلى “دولة داخل الدولة”، أو تجعلها “فوق الدولة”، وبمنأى عن الرقابة والمحاسبة بشكل علني أو تقليدي. بل إن هذه الأجهزة قد لا تخضع، أحيانًا، لسلطة المؤسسة العسكرية ذاتها بشكل رسمي، الأمر الذي قد يخلق مراكز للقوى والنفوذ داخل الدولة، على غرار ما شهدته مصر في الستينيات، حيث كانت هذه المراكز متغلغلة في مؤسسات مثل الشرطة، وأجهزة الأمن والمخابرات، والحزب الحاكم، والمؤسسات الاقتصادية والمالية والإعلامية.

كذلك، فإن طبيعة السلطة الأبوية، واختلال العلاقة بين الدولة والمجتمع في البلدان النامية، يجعلانها تصطبغ بكثير من ملامح “الدولة العميقة” التي تشير إليها بعض الدراسات، منها الاعتقاد الراسخ لدى المسؤولين في هذه الدول بأن المجتمع بحاجة إلى وصاية، وأنهم أوصياء على القيم الوطنية، وحمايتها من أية تهديدات داخلية أو خارجية. وغالبًا ما لا يثق هؤلاء في قدرة الدولة أو الحكومة أو حتى الجيش على حماية الوطن، مما يؤدي إلى شعورهم المستمر بالاستهداف، وإيمانهم بالمؤامرات، ويعزّز لديهم مشاعر الاضطهاد وجنون العظمة، والترويج لنظريات المؤامرة أو الانغماس في مؤامرات مضادة.

قد تضعف المشروعية المرتبطة بهيكل السلطة في هذا النموذج لصالح فكرة الشرعية المستندة إلى علاقات القوة داخل هذه الشبكة ومكوّناتها، نتيجة للدور الذي تلعبه الجهات الفاعلة غير المؤسسية، وما يرتبط بذلك من شيوع حالة عدم اليقين، وانتشار المخاوف التي تؤثر على عملية انتقال السلطة بعد الانتخابات.

وقد لاحظت كثير من الدراسات أن توجهات الدولة القائمة أو الظاهرة قد تتوافق، في كثير من الأحيان، مع مصالح “الدولة العميقة” المفترضة وتوجهاتها، وأن هذا التداخل بين الدولة و”الدولة العميقة” يزداد في النظم الاستبدادية على وجه الخصوص.

تُجسّد “الدولة العميقة” هنا شبكةً مترابطةً من التقاليد السياسية الاستبدادية، إذ يتفق المحللون على أن مسار منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعتمد على الاستبداد، حيث تركزت السلطة السياسية، لفترة طويلة، في أيدي أصحاب السلطة القسرية ومن جُنّدوا لمساعدتهم.

ومن هذه السمات أيضًا أن الزبائنية تصبح الرابطة الأساسية للعمل السياسي، والتي يتم من خلالها توزيع الغنائم والمكاسب والمزايا.

 

نوصي للقراءة: العصامية والجربعة: صراع التحولات الاجتماعية في مصر من محمد علي إلى إيهاب جلال

الدولة ومصادر السلطة والشرعية

من المفيد طرح مسألة “الدولة العميقة” في سياق النقاش العام حول مصادر الشرعية السياسية للدولة وعلاقتها بالمشروعية؛ ذلك أن الدولة، في أبسط تعريفاتها، تُشير إلى السلطة المركزية التي تحتكر استخدام القوة المشروعة على أراضيها، والقادرة على توظيفها للحفاظ على السلم الأهلي وتطبيق القانون. وعندما تغيب هذه السلطة، نكون بصدد حالة من الفوضى الشاملة.

لكن هناك حالات تكون فيها الدولة غير قادرة على ممارسة سلطتها المركزية، لسبب أو لآخر. فأحد الإشكاليات الأساسية التي تعاني منها كثير من البلدان في الوقت الراهن، بما في ذلك البلدان الغربية، هي مشكلة تآكل الشرعية، التي كانت تُطرح سابقًا كمشكلة من مشكلات بناء الدولة وأزمات التنمية السياسية.

يشير إيان شابيرو، محرر سلسلة كتب النظرية السياسية المعاصرة التي تصدرها جامعة كمبردج، إلى أن التحديات السياسية الجديدة التي تواجهها الدولة، والتي برزت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تفرض نفسها أيضًا على البلدان الغربية. وتتمثل هذه التحديات في التدهور الحضري، والصراع الطبقي والعرقي، وفشل الشرعية السياسية، إلى جانب المعضلات الأخرى للرابطة السياسية في المجتمعات، التي لم تُحل بعد؛ الأمر الذي يدفع إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم السياسية، بما في ذلك مفهوم الدولة، بوصفها المعبر الرئيسي عن الاتحاد السياسي للمجتمعات المعاصرة، استنادًا إلى نظريات “العقد الاجتماعي”، التي تُؤسِّس لشرعية الدولة واحتكارها المشروع لممارسة الإكراه والعنف، في مواجهة القوى المختلفة، كبديل لحالة “حرب الجميع ضد الجميع”، التي أشار إليها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588–1679).

في هذا السياق، ظلّت صيغة الدولة المهيمنة، التي تهيمن فيها مجموعة عرقية واحدة على المجموعات الأخرى كبديل لحالة الصراع المفتوح، هي الصيغة السائدة، خصوصًا في المجتمعات التي تعاني انقسامات شديدة. ذلك لأن المجموعة المهيمنة لا تسيطر فقط على أدوات الحكم، بل تحظى أيضًا بقدر من القبول العام، الذي يؤسّس شرعيتها في ممارسة الإكراه أو استخدام القوة عند الضرورة.

غير أن هذه الصيغة فرضت نوعًا من الازدواجية، نتيجة لعدم التطابق بين القوى الاجتماعية أو المجموعات المهيمنة، وبين هيكل السلطة الرسمي في الدولة. وهي الظاهرة التي رصدتها العديد من الدراسات التي بحثت في مسألة الجذور الاجتماعية للسلطة السياسية، خصوصًا في بلدان العالم الثالث، كما تتجلى من خلال ممارسة السلطة ونمط العلاقات السائد. ولم يتم التعامل معها بوصفها مظهرًا من مظاهر “الدولة العميقة”، بل من منظور العلاقات بين شخصيات نافذة في الدولة، وبين الجماعات صاحبة النفوذ الاجتماعي، التي تربطها بهم مصالح اقتصادية، ومشاريع تجارية ومالية، وعلاقات اجتماعية وعائلية، وطقوس احتفالية، وانتماءات طائفية، وعلاقات مصاهرة، وممالك إعلامية.

لا يعني ذلك بالضرورة أننا إزاء “دولة عميقة”، وإنما يعني أننا أمام مستوى من ممارسة السلطة لا يستند إلى المشروعية القانونية، ولا إلى الصلاحيات التي تخضع للمساءلة والمحاسبة. إنه انحراف في طبيعة الدولة والسلطة ومشروعيتهما، حتى في ظل وجود قيادات تنفيذية وأعضاء منتخبين في المجالس التشريعية ينتمون إلى هذه الجماعات والأذرع، ويسخّرون مناصبهم الرسمية لخدمة مصالح ذاتية على حساب المصلحة العامة.

وهنا، تصبح “الدولة العميقة” إشكالية جدية في الدول المتقدمة الأكثر مأسسة ورسوخًا، أكثر منها في كثير من دول العالم الثالث التي نشأت بعد مرحلة التحرر من الاستعمار، والتي تم استيراد نماذجها من الغرب دون فهم المنطق الذي تأسست عليه الدولة هناك.

ففي دراسة حول الحكم الاستبدادي المعاصر في ثماني جمهوريات عربية، يشرح جوزيف ساسون هذه الشبكات التي تربط الأحزاب السياسية، وأجهزة الاستخبارات، والجيش، والرئاسات، والجهات الفاعلة الاقتصادية العامة والخاصة، ويرسم صورة شخصية للتفاعلات الإنسانية والمؤسسية في هذه “الدول العميقة”، دون أن يستخدم هذا المصطلح صراحة.

وفي كتابه “من الدولة العميقة إلى الدولة الإسلامية”، يُشبّه جان بيير فيليو حكّام معظم الجمهوريات العربية في فترة ما بعد الاستعمار بالمماليك، لأنهم يفتقرون، مثل أسلافهم في العصور الوسطى، إلى شرعية السلالات المستمرة والممتدة لقرون، كما أنهم ينحدرون من طبقات اجتماعية دنيا، وكان الجيش هو السبيل الوحيد للارتقاء الاجتماعي.

ويُرجع باحث آخر، درس حالة العراق، ازدواجية الدولة العربية المعاصرة إلى الحقبة الاستعمارية. ووفقًا له، فإن البريطانيين، المعارضين لإنشاء دولة قومية حديثة وديمقراطية في العراق، أنشأوا بدلًا من ذلك “دولة مزدوجة”—واحدة رسمية تتكون من مؤسسات عراقية، وأخرى “دولة ظل” تقوم على شبكات خفية من السلطة والمحسوبية، القائمة على الولاء والاحترام.

وهناك إقرار واسع النطاق حاليًا بوجود رابطة ما بين السلطة السياسية والقوى الاجتماعية في المجتمع، سواء اتخذت هذه الرابطة صورة جماعات ضغط تسعى للتأثير في القرارات السياسية، أو اتخذت صورة استراتيجيات مرنة ومتغيرة تتيح لهذه القوى التسرّب إلى نسيج السلطة وبُناها.

لكن الفكرة المهمة في هذه النظريات هي أنها تميّز بين ما يُطلق عليه “النواة الأساسية المصمتة” لسلطة الدولة، وبين المكونات الأخرى التي تحيط بهذه النواة الصلبة، والتي يمكن للقوى الاجتماعية النفاذ من خلالها لممارسة التأثير، أو فعل ذلك عبر آليات السوق.

والدولة، وفقًا لهذه النظرة، لها طبيعة مزدوجة، تسمح بوجود جهاز خاص ذي بنية مادية متمايزة عن القوى الاجتماعية وصراعاتها، وقادر على ممارسة دور في إدارة هذا الصراع من خلال أدواته، بما يضمن التوازن الضروري لتحقيق الاستقرار وانتظام العلاقات.

وتمتد فعالية الدولة إلى سائر مجالات الحياة اليومية؛ فمن ناحية، هناك الدولة التي ترتبط بالطبقات الاجتماعية وصراعاتها، ومن ناحية أخرى، هناك “دولة ثانية” تفرض نفسها وتعمل من وراء ظهر الدولة الأولى، وتملك سلطة سياسية تمكنها من إلغاء وظائف الدولة الأولى أو تدميرها أو إفسادها أو تغييرها.

وقد فرض التعقيد الهائل والمتعاظم للمهام التقنية-الاقتصادية نوعًا من الفصل بين السلطة السياسية والدولة، التي أصبحت تتمتع بنفوذ هائل على مواطنيها في جميع المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. ولم يعد في مقدور أحد الإفلات من التدخل المباشر للدولة الحديثة، التي تتمتع بصلاحيات فرض الضرائب، وسنّ القوانين وتنفيذها، وإعادة توزيع الموارد وفرص الحياة، وممارسة الإكراه بدرجات مختلفة.

ويزداد هذا الحضور في دول العالم الثالث، حيث يتسم سلوك الدولة تجاه مواطنيها بنزعة استبدادية قد تتعارض مع فكرة حرية الفرد.

إن فكرة الحرية تُعدّ أساسية في منظومة الدولة الحديثة، ووجود سلطة يُعدّ مسألة جوهرية لضمان هذه الحرية، حسبما يشير عالم الاجتماع الأمريكي المحافظ روبرت نسبيت، الذي يرى أن الحرية غير ممكنة في المجتمع بمعزل عن السلطة.

والتمييز بين القوة—التي تعني القدرة على التأثير في سلوك الآخرين أو قراراتهم اعتمادًا على المعرفة أو قوة الشخصية أو الموارد—وبين السلطة—التي تعني استناد الأوامر والقرارات إلى مناصب رسمية يشغلها أصحاب الصلاحية—هو تمييز بالغ الأهمية لفهم كيفية عمل الدول، خاصة عندما تتحلل السلطات التقليدية أو تبدأ في التحلل، حيث تنشأ القوة كبديل للسلطة، نتيجة اللجوء إلى الإكراه الصريح، وتحلّ محل السلطة التي كانت تستند إلى قدر من قبول المحكومين ورضاهم.

وهذه مشكلة تواجه المجتمعات الديمقراطية باستمرار، وقد رصدها الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي أشار إلى أن “الصراع المدني الدائم ليس في جوهره سوى تفتيت للسلطة في المجتمع”، وأن ذلك هو “المقدمة المشؤومة للاستبداد”، عندما يعتقد البعض أنهم القادرون على استعادة نسيج السلطة بالقوة.

إن “التآكل المتسارع” للمؤسسات التقليدية، التي شكّلت المصادر الرئيسية للنظام والحرية في المجتمعات الغربية لأكثر من ألف عام، هو المشكلة التي تواجهها الديمقراطيات الغربية اليوم. وتتجلى هذه الأزمة في التراجع الواضح لنفوذ النظام القانوني، والكنيسة، والأسرة، والمجتمع المحلي، والمدرسة، والجامعة، وهو تراجع يرى فيه البعض إرهاصات لفوضى اجتماعية وأخلاقية، وصعود “القوة” لتملأ الفراغ الذي تتركه السلطة الاجتماعية المتراجعة، بحيث يُصبح من الصعب تمييزها عن القوى المنظمة والعنيفة.

تآكل الشرعية هو ما يعزّز فكرة “الدولة العميقة” في المجتمعات الغربية، بوصفها تعبيرًا عن مفهوم القوة المرتبط بالسياسة. وهذا أحد أوجه الاختلاف الجوهرية بين مفهوم الدولة التي تمارس سلطتها بشكل شرعي، يقوم على تراتبية مؤسساتية، وعلاقات سلطة رأسية وأفقية، وتمتلك أجهزة لممارسة القمع والإكراه، إضافة إلى أطر إعلامية وثقافية ودينية، وتعتمد على أدوات كالتجسس والتضليل؛ وبين “الدولة العميقة” التي تمارس السلطة بشكل غير شرعي، معتمدة على الإكراه والعنف أو التهديد بهما، أو من خلال الإغراء عبر علاقات الزبائنية والمحسوبية.

في هذا السياق، تتحوّل البيروقراطية إلى أداة أساسية، بل إلى قوة منظّمة تقود مقاومة سلبية لأي من البرامج أو السياسات التي تضعها القيادات السياسية، إذا ما رأت فيها تهديدًا لمصالحها. ويطرح هذا التحول إشكالية كبرى تتعلق بعلاقة الدولة، باعتبارها مدافعة عن السلطات التقليدية للنظام الاجتماعي، بالسلطة المنتخبة، والحدود التي يمكن أن تصل إليها في تعديل الترتيبات التي تأسست عليها الدولة. كما يطرح تساؤلات حول مدى تأثير هذه التغييرات على ضمان استمرار النظام القائم على مبدأ تداول السلطة عبر الانتخابات.

في مثل هذه الحالة، قد تتحوّل “الدولة العميقة” في الأنظمة الديمقراطية إلى حامية للديمقراطية ذاتها، في مواجهة القوى الفاشية الانقلابية التي تسعى لتغيير قواعد اللعبة السياسية وتداول السلطة، كما هو الحال مع بعض التيارات الشعبوية واليمينية المحافظة. وهو ما يستدعي التعامل بحذر مع مفهوم “الدولة العميقة”، والانتباه إلى محاولات استغلاله من قِبَل قوى تسعى إلى فرض سطوتها على المجتمع عبر آليات غير مرئية لممارسة السلطة، بما يؤدي إلى تقويض منظومة القوانين التي كانت توفّر الضمانات الأساسية لحماية حرية الفرد وحقوقه.

 

نوصي للقراءة: 13 عامًا عجاف في ظلّ الثورة المضادّة..  لماذا هُزمت يناير؟


مقالات الرأي المنشورة في زاوية ثالثة لا تعبّر بالضرورة عن آراء فريق التحرير، بل نعرضها إيمانًا بحق الجمهور في الوصول إلى الأفكار والجدالات المهمة، حتى لو كنا نختلف معها كليًا.

أشرف راضي
كاتب ومحلّل سياسيّ مصريّ، صحفي سابق في رويترز وعدد من المنصّات الصحفيّة

Search