عن محمد أبو تريكة الذي لا نعرفه.. دليلك لصناعة “عجوة” محببة للنفس!

وكأننا خلقنا بنفسنا إلهًا منْ العجوةِ ، وبدلًا منْ أنْ نأكلهُ في المساءِ ، فضلنا أن يأكلنا هوَ في الصباحِ بتصريحاتهِ وضحكاته، علّنا نجدُ تصريحًا عنْ قضيةٍ عادلة تُمثلنا
تصميم: زاوية ثالثة
محمود ليالي

الكثير من الأسئلة والقليل من الإجابات، حلقات متتالية من مسلسلٍ معروف نهايته مسبقًا، أين سيذهبُ إمام عاشور؟ السوشيال ميديا الزملكاوي ينقلب رأسًا على عقبٍ، والعجلة تدور كما تدور الحياة في اتجاهٍ واحد، لاعب يتألقُ مع ناديه القديم، الزمالك، ليقرّر فجأة خوض تجربة الاحتراف، يتألق مع نادٍ مؤسسي مثل ميتلاند الدانماركي، ليعود بخفي حنين إلى أرض الوطن مجددا، ما تفسير ذلك؟

لقد حدث ذلك قديمًا بنفس الأسلوب وبالدوافع ذاتها، وخط الزمن يخبرنا أن النادي الأهلي قد طرق الأبواب بالفعل، خاصةً وأن العرض لم ينطوِ على مبلغ مالي ضخم فحسب؛ بل على ما هو أهم من ذلك: سيصبح رقم 22 الأسطوري ملكًا لك، وستصبح بذلك معبود الجماهير، وستفتح أمامك خزائن الأرض تيمّنًا بصاحب القدم الذهبية، القديس محمد محمد أبو تريكة، عرض لا يمكن رفضه، أليس كذلك؟!

المدهش هنا كان تعليقات الجماهير، حيث قال أحدهم أن هذا الرقم سيكون سببًا في هداية اللاعب للطريق المستقيم، كما أكد آخر أنه سيصبح شفيعًا له يوم القيامة، كما ظهر رجل كامل الأهلية، يعيش في بلد نام من بلدان العالم الثالث، ليؤكد بنفسه أن القيامة ستقوم اعتراضًا على تلك الفعلة، فمنذ متى ويقارن البشر بالقديسين.

 

القديس

“أسير بقلب قديس وإن حسبوه زنديقًا.. لا بل قديسًا أيضًا، وحين أحب سيدة أحولها لـ .. لحظة، لن أنظر إلى وجهها، وهذا هو سر الجاذبية، هل سبق أن رأيتَ صورة أبو تريكة واضعا عينيه في الأرض أمام مذيعة بفستان عارٍ؟ بالطبع رأيتها، وتلقائيًا وجدت نفسك تحمد الله على أن الدنيا ما زالت بخير، وأن بها أشخاصًا قابضين على دينهم كالقابضين على الجمر، لأننا كما تعرف في آخر الزمان، وظهر الفساد في البرّ والبحر، وإلى آخره من التنويعات الشعبية التي يعتنقها ويرددها المصريّون.

تلك الحادثة لم تكن الوحيدة المؤسسة لعلاقة اللاعب بعشاقه من الجماهير المرتبطة بدينها، بل سبقها وتبعها العديد من الحوادث التي قدم من خلالها صورة مميزة عن الإسلام والمسلمين، بدايةً من علو نجم منتخب الساجدين، وانتهاءً بالأعمال الخيرية الكثيرة والكبيرة التي يقدمها سرًا، ولم تظهر للعلن إلا من خلال شهادات الشهود.

كان للمنتخب المصريّ طابع دينيّ واضح، ورغم وجود العديد من اللاعبين غير الملتزمين بالمفهوم العام مثل عمرو زكي وأحمد حسام ميدو، إلا أن التدين الظاهري ظل موجودًا عند الجميع، فلا يحتفلون إلا بالسجود، ولا يرفعون إلا المصاحف، وبالطبع كان أبو تريكة هو المصدر الرئيسي لهذا الإلهام، حيث كان إمامهم في الصلوات الخمس، وأكثرهم التزامًا وقربًا من الدين الإسلامي.

 

“الإسلام يعالج الفقر من خلال الزكاة؛ لأن الغني يشعر بمحنة الفقراء، ويجب علينا أن نساعد الفقراء بقدر الإمكان حتى لا يشعروا بالغربة في المجتمع”.. محمد أبو تريكة

 

تلك الحوادث والأقاويل كانت مهمّة في علاقة اللاعب بكامل قطاعات الشعب، خاصّة بعد تعدّيها لفكرة اللاعب الموهوب، وانتصارها للقضايا الكبيرة والمؤثّرة في العالم العربيّ، هل تتذكّر جملة “تعاطفًا مع غزّة” الّتي وجهها نحو الكاميرات في أمم أفريقيا عام 2006؟ لقد كانت حديث الشارع العربيّ، وظلّت حتّى يومنا هذا مؤسّسة لأسطورة الرجل.

 

الكوميديا الإلهية

لأبوتريكة نزعة كوميدية غير محببة للبعض، وهذا ليس رأينا بالطبع، بل يشاطرنا فيه زميله السابق محمد بركات، والذي صرح قبل ذلك أن أبو تريكة كان يتعمد إلقاء النكات ليضحك عليها وحده ..هاها.. تلك ليست المشكلة الحقيقية، لأن الرجل لم ينزعج من تلك الأقاويل، وظل يضحك عليها في بشاشة وخجل، بل ولم يخض خصومة شخصية واحدة منذ صعوده نجمًا على الساحة الكروية، وربما منذ نعومة أظفاره.

في عام 2012، كان تريكة مرشحًا لمنصب مدير الكرة في النادي الأهلي، وهو الأمر الذي قوبل بترحاب شديد من قبل الجماهير، وبسخط كبير من قبل الإعلام، لماذا؟ لأنه أعلن رسميًا تأييده لترشيح محمد مرسي في انتخابات الرئاسة، ليصبح بذلك محسوبًا على تيار الإسلام السياسي، وهنا كانت القشة التي قَصِمَت ظهر البعير! حيث بدأت الحملات الإعلامية الممنهجة، متهمة إيّاه بالضلوع في تمويل العمليات الإرهابية، لدرجة أعلن فيها مصطفى يونس، لاعب الأهلي السابق، عن أن معسكرات النادي ستنتقل تلقائيًا إلى سيناء وسط الجماعات الإرهابية بمجرد جلوسه على كرسي المدير الرياضي، والعديد العديد من الاتهامات بالخيانة العظمى والخوض في العرض والنسب والشرف، فما كان رد فعله؟ بالضبط كما توقعت:

 

أنا متصدق بعرضي على الجميع، من يريد سبي فالباب مفتوح، وأنا بالفعل أسامح الجميع من كل قلبي.. أبو تريكة

 

تلك الخلطة المدهشة من الموهبة وإنكار الذات وبياض الوجه ونقاء السريرة من جانب، والهجمات القاسية والضارية التي تعرض لها في السنوات الأخيرة من قبل الإعلام من الجانب الآخر، فرشت لظهور تيارٍ يخضع تمامًا لترهات الرجل، خاصةً بعد سنوات الفراق الطويلة، ليصبح كل ما يفعله أبو تريكة مصدقًا من قبل الجماهير، حتى تلك النكات التي يلقيها عبثًا، أصبحت تضحك الجماهير رغمًا عنها لا لشيء سوى أنها تخرج من فم القديس، وتلك الحالة لا تحتاج إلى إثبات، ويكفيها فقط أن تتابع أيًا من صفحات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، خاصة بعد الحملة التي شنهّا الرجل على فريق تشيلسي وكيله إتهامات الفشل للإدارة والمدرب واللاعبين منذ الجولة الثانية وحتى الآن لتجد التعليقات متمحورة حول هدفٍ وحيد، ممنوع الاقتراب من هذا الرجل مهما كانت الأسباب.

عدو ما يجهل

بعد رحيله إلى قطر، وجد القديس أبواب قنوات “بين سبورتس” مفتوحة على مصاريعها أمامه، للعمل كمحلل رياضي في استوديوهات القناة الخاصة بالدوري الإنجليزي، وهنا يجبُ أن نوضح شيئًا: لا يوجد شخص واحد على ظهر البسيطة يستطيع بمفرده أن يحلل الرسم الخططي لمباراة كرة قدم كاملة فور انتهائها مباشرةً، لأنها عملية معقدة يدخل بها العديد والعديد من المتغيرات والآليات والحالات، وتحتاج إلى أيام كاملة لدراسة كل لقطة من اللقطات الخاصة بحالات لعب مختلفة ومتشعبة، ومن ثم فلا معنى لوجود الاستوديوهات التحليلية من الأساس، معذرةً.. نقصد أن وجودها يقتصر فقط على مدّ المساحة اللازمة لظهور الإعلانات، ومن خلال تلك العملية يمكننا تمرير بعض المشاحنات بين طرفي النقيض من النجوم لزيادة نسبة المشاهدات.

إذن فتريكة كغيره من اللاعبين السابقين الّذين يملأون الشاشات لأهداف رأسماليّة دون استناد إلى علم حقيقيّ، لكنّ تقريرًا نشره موقع “جول” عام 2020، رصد من خلاله بعضًا من رواتب المحللين قد يبعثر بعض الأوراق تمامًا، فمثلًا: يتقاضى غاري نيفيل وجيمي كاراغر في “سكاي سبورتس” ما يقرب من مليون باوند سنويا، بينما يحصل “غاري لينيكر” في “BBC” على 1.35 مليون باوند، و”ألان شيرار” على 395 ألف باوند، أما تريكة فيحصل على راتبٍ شهري يقدر بـ 600 ألف يورو سنويًا.

أرقام فلكية تضعنا أمام تساؤل هام: إن كان هؤلاء يتقاضون تلك الرواتب، فلماذا لا يأخذون الأمور على محمل الجد ولو قليلًا؟ نحن نعلم أن الأمر في غاية الصعوبة، ولكن على الأقل لماذا لا ينظرون إلى الأمور بشكل أكثر عقلانية؟ أو بمعنى أصح؛ لماذا أصر محمد أبو تريكة على نقده الساخر لأداء فريق تشيلسي بعد مرور ثلاث جولات فقط؟ ولماذا يصر على نعته بفريق “المليار دولار” دون النظر إلى باقي العوامل والمتغيرات؟ فهل هو بحاجةٍ لأن نخبره بأن الفرق تبنى بالصبر خاصة مع وجود مدرب جديد وطرق لعب مختلفة؟ وإن كان الأمر كذلك فلماذا يصر على إنكار أنه خطأ التقدير بعدما نصحه الجميع بالتوقف؟

وبالطبع لا ننسى مغازلته المستمرة لتيارات الـ “Mainstream”، وتحريضه الدائم ضدّ المثليّين جنسيًّا واعتبار المثليّة “ظاهرة خطيرة ووقحة” و”عكس الفطرة الإنسانيّة”، دون أن يستند إلى آراء متخصّصة في الطبّ، أو في الشريعة، ما يغذّي تلك الكراهية في عقول الشباب.

 

النهاردة بعد صلاة الفجر أحد الشباب قال لي أنا زعلان منك عشان بتتكلم وحش على تشيلسي، قلت له ليه انت من مواليد لندن؟ هاهاها! محمد أبو تريكة

 

أما هذا التصريح فله معنى واحد فقط: أن اللعبة برمتها لا تستحق هذا العناء، ولا تستحق تلك الضجة، وهذا يعني أيضًا أن العاملين باللعبة لا يستحقون هذا الكم من الأموال في المقابل، وهنا قد يظهر سؤال آخر: منذ متى ويقحم القديس نفسه في صراعاتٍ من هذا القبيل؟ حسنًا، سنوفر عليك الإجابة: من الآن فصاعدًا، بسبب ما زرعناه في مخيلته على مدار السنين، وبيدنا لا بيد عمرو.

هل سمعت عن مصطلح “عبادة المشاهير” من قبل؟ في دراسة منشورة عام 2021، تتحدث البروفيسور “سانديب فوهرا”، عالمة النفس الفسيولوجي، أن الإعجاب بالمشاهير يُعدّ أمرًا طبيعيًا في الصغر، حيث يبدأ الطفل أو المراهق في تمجيد شخص معين له طابع أسطوري في مجال عمله، وغالبًا ما يكون هذا الشخص ملتصقًا بنا وبدوافعنا، حيث نتعرض له باستمرار من قبل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن مع التقدم في العمر، فعادةً ما نميل إلى نسيان هذا الشخص.

ولكن في بعض الحالات قد يتحول الأمر إلى هاجس يؤثر في حياتك الشخصية والمهنية والاجتماعية، حيث تصل إلى نقطة تبحث فيها باستمرار عن هذا الشخص عبر الإنترنت، وتطارده عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتبدأ حياتك في التمحور حوله لدرجةٍ تنسى فيها نفسك لتغرق في أفكار وترهات ذلك الرجل، ومن هنا يأتي مصطلح العبادة، والذي لا يعني أنك تعبده بالمعنى الحرفي، ولكنه يتحول تدريجيًا حتى يصبح المعيار الأوحد والوحيد لأفكارك وآراءك وتحركاتك، خاصةً وإن كان يعاني مباشرةً من نفس مظالمك، أو يحمل على كتفيه القضية نفسها.

وهوَ ما حدثَ في تلكَ الحالةِ بالضبطِ؛ بعد عمليةِ طوفان الأقصى ومآثرِ المقاومةِ المستمرة، عادَ أبو تريكة ليتصدّرَ الواجهةَ مجّددًا كمدافعٍ أول عن القضية العادلة الأولى، وعاد مرةً أخرى لعاداتهِ القديمة، وعبر عن نفسهِ كرجلٍ عاديٍ مثلنا، كانَ يعملُ في مصنعٍ للطوبِ في صغره، وعانى الأمرين حتى يصل إلى مكانةٍ مرموقة، وعندما وصلَ ، لم ينسَ أهله ومحبيه، ما جعلنا نسقط في تلكَ المتوالية معه، نحبه بجنون، ونؤمنُ بما يؤمنُ بهِ تمامًا، وننسى أن تلك الأفعالِ قد تغيّر من طبيعتهِ شخصيًا، لتجعل منهُ شخصا آخر لا نعرفه، شخصًا يشعرُ بالاستحقاق، ولا يحاولُ تطويرَ رأيهِ قيدَ أنملة. وكأننا خلقنا بنفسنا إلهًا منْ العجوةِ ، وبدلًا منْ أنْ نأكلهُ في المساءِ ، فضلنا أن يأكلنا هوَ في الصباحِ بتصريحاتهِ وضحكاته، علّنا نجدُ تصريحًا عنْ قضيةٍ عادلة تُمثلنا، يجبَ ما قبلهِ منْ مرارةٍ ، ويعيدَ إحياء شعبيته مرةً أخرى في العقولِ والقلوب.

 

مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن “زاوية ثالثة”

محمود ليالي
كاتب وصحفي رياضي مصري، يهتم بكرة القدم كلعبة وكصناعة تفوق أهميتها ما لا يمكن اختصاره في الخطط والتكتيكات، شاعر صدر له ديوان "البقايا" عام 2023

Search