“لا نملك الدولارات لنعبر، سنموت جوعًا”. كلمات باتت عادية على مسامع المتابعين لحرب الإبادة الجماعية الدائرة في غزة منذ يوم السابع من أكتوبر الماضي، ما بين آلاف من المشاهد المروية وآلاف غيرها لم تروى، جاء هذا المشهد الذي دفعنا للعمل على القضية.
وسط متابعتنا لقضية العالقين المصريين في غزة والتي كنا قد أثرناها الأسبوع الماضي، حصلت زاوية ثالثة على تسجيلات صوتية توضح تفاوض أحد العالقين مع منسقين يعملون منذ سنوات في تجارة المعابر، حيث اعتادوا على تلقي أموال من جنسيات مختلفة على الجانب الفلسطيني لتسهيل عملية خروجهم عبر معبر رفح البري بين غزة الفلسطينية وسيناء المصرية. يقول منسق حسبما ظهر لنا في التسجيل الصوتي: “التنسيق للمصريين موجود، بقيمة 750 دولار للفرد، بدءًا من عمر الـ14 عامًا، أما الأطفال دون ذلك فيتم الاتفاق مع ذويهم مقابل 400 دولار للطفل الواحد، كل عمر له سعره”.
وما بين تأييد وإنكار أظهرت مقابلاتنا مع مصريين عالقين بالداخل وعائلاتهم المنتظرة في مصر، أن مسألة التنسيق قديمة للغاية، لكنها نشطت وبشدة في السنوات الأخيرة، كما ارتفعت الأسعار المعروضة من قبل منسقين لتصل في بعض الأحيان إلى 1000 دولار للفرد الواحد، في نوع من استغلال العالقين وحاجتهم للهرب من الموت المحقق في غزة. يقول بهاء وهو مصري عالق في غزة: “للأسف هناك من يدفعهم الخوف على عائلاتهم إلى محاولة العثور على منسق ومنحه كل ما يملك في مقابل وهم خروجهم من خلاله، لكن في الحقيقة الوضع الآن مختلف بشكل قاطع نحن عالقون في حرب طويلة ولن نتمكن من النجاة إلا إذا أرادت مصر فتح المعبر واستعادة مواطنيها بشكل سريع”.
فيما يقول أبو محمد: “ينشط تجار الحروب من الجانبين في هذه الآونة كثيرًا، ويستغلون حاجتنا، وأنا لست مستعدًا لفقدان عائلتي قد أضطر لبيع منزلي فورًا لاستعادتهم”. عارضه سيف: “أنا أرفض، لن ندفع مقابل دمائنا، حق على الدولة المصرية أن تتحرك وتعيد الغائبين وفق نصوص الدستور والقانون، نحن مواطنون ولنا حقوق يجب أن تسدد”.
فيما نفى عادل عبد الرحمن -رئيس جمعية الجالية المصرية في غزة- لـ”زاوية ثالثة” وجود التنسيقات الآن، يقول: “أتحدى وجود أي تنسيق حاليًا، وقد أعلنت مرارًا أنه في حال تواصل أي من المواطنين مع منسق، يقوم بالإبلاغ عنه فورًا، أو إعلان ذلك وفضحه”. موضحًا أن حاجة العالقين الشديدة هي ما أدت إلى انتشار مثل تلك الشائعة، مؤكدًا: “حرام نتاجر في دم الناس، الناس خرجت من بيوتها تركوا أموالهم ومنازلهم، ولا بد من التصدي لانتشار مثل تلك الظاهرة في وقت الحروب”.
وفق المادة (88) من الدستور المصري والتي تنص على أن: “تلتزم الدولة برعاية مصالح المصريين المقيمين بالخارج، وحمايتهم وكفالة حقوقهم وحرياتهم، وتمكينهم من أداء واجباتهم العامة نحو الدولة والمجتمع وإسهامهم في تنمية الوطن. وينظم القانون مشاركتهم في الانتخابات والاستفتاءات، بما يتفق والأوضاع الخاصة بهم، دون التقيد في ذلك بأحكام الاقتراع والفرز وإعلان النتائج المقررة بهذا الدستور، وذلك كله مع توفير الضمانات التي تكفل نزاهة عملية الانتخاب أو الاستفتاء وحيادها”. فإن أداء السلطة المصرية جاء مخيب للآمال، ولا يحقق المادة الدستورية التي توفر للرعايا المصريين في غزة حق الإجلاء ومراعاة أمنهم الشخصي في ظل الحرب الدائرة.
وما بين تأكيد لوجود عمليات التنسيق ونفي، يبقى السؤال الأهم حول المتحكم الرئيسي في سير عمليات الدخول والإجلاء من الجانب المصري لأهالي غزة، سواء كان ذلك في ظل الحرب الدائرة أو في السنوات السابقة التي تلت صعود النظام الحالي إلى كرسي الحكم.
من يحمل مفاتيح معبر رفح؟
أضحى الإغلاق المتكرر الذي فُرض على معبر رفح البري منذ العام 2007، والذي يمثل النافذة الوحيدة المتبقية لسكان غزة إلى مصر والعالم، سبباً رئيسياً في تزاحم قوائم المسجلِين للسفر لدى وزارة الداخلية الفلسطينية في غزة، ما دفعهم نحو استحداث وسائل غير مباشرة وربما غير مشروعة لتنفيذ عمليات سفرهم، بعد أن تغيرت الحال وأصبح المارّون عبر المعبر لا يتجاوزون المئات في كلا الاتجاهين، بعد أن تكدس سابقًا بعشرات آلاف المسافرين شهريًا.
وتعطي الداخلية الفلسطينية الأولوية في منح تصاريح الخروج دومًا للطلاب والمرضى وأصحاب الإقامات والذين يسجلون في مجمع أبو خضرة الحكومي في مدينة غزة (كشوفات الوزارة الرسمية)، ما منع آلاف من المغادرة في كثير من الأوقات أو وضعهم في قوائم انتظار طويلة، لذا لم يكن أمامهم سوى اللجوء للتنسيق. ووفق مصادر متصلة، فإن هناك أشكال مختلفة من التنسيق (تنسيق رسمي وحيد مع سلطة حماس وباقي الأشكال هي عبارة عن تنسيقات غير شرعية). المسألة بدأت بعلاقات شخصية تجمع ما بين بعض الغزيّين ومصريين من عناصر الأمن التابعة للسلطة، مقابل منحهم أموال متفق عليها، لإدراجهم في كشوفات التنسيق التي تسلم إلى إدارة المعبر لتسجيل عمليات الدخول.
ووفق تقرير صحفي منشور في العام 2018، فإن “في كل مرة، وهي مرات قليلة، يفتح فيها المعبر، تسافر بالمتوسط حافلتا تنسيق، بواقع ما يقارب 20-30 شخصا في الحافلة، وفقًا لموظف فلسطيني يعمل في ختم الجوازات على المعبر. يُمنح هؤلاء الأولوية في المرور، ولذلك فإن حافلاتهم تكون أولى الحافلات المسافرة، وهي تُعطل بذلك من ينتظرون في قوائم وزارة الداخلية”. وحسب التقرير ففي البداية ارتكزت العملية على تسهيلات من بعض عناصر أمنية مع سماسرة (منسقين) في مقابل نحو 1200-1500 دولار، وصولًا إلى 5000 دولار، إذا كان المسافر على القوائم السوداء الممنوعة من دخول مصر (هناك فئة من المواطنين الغزييّن مدرجون على القائمة السوداء، وممنوعين أمنيًّا دخول مصر كالنشطاء والقادة السياسيين إلا في حالة واحدة، وهي التنسيق ودفع مبلغ يصل إلى 6 آلاف دولار، فيما يعرف بالتنسيق دون العرض، تتكفل به الجهة التي نسّق معها المسافر من لحظة خروجه من بيته حتى وصوله مصر)، توزع بنسبة 2 إلى 6 لصالح عنصر الأمن. كان ذلك في بداية تأسيس تجارة التنسيقات عبر معبر رفح البري.
تطورت المسألة بعد رواجها، لتبدأ عمليات تجارة التنسيق في التوسع إلى أن وصلت حد تجارة الحروب. في الوقت الذي منحت فيه السلطة المصرية إذنًا لاستمرار تلك التجارة؛ ولكن عبر منحها مسمى “عملية تنظيم”؛ بل وأجبرت المنسقين الذين كانوا يعملون بشكل فردي على العمل مع مكاتب للسفر، وإجبارهم كذلك على تسجيل مبالغ التنسيق ورقيّاً. ليبدأ عصر جديد من التنسيق تحت إشراف رسمي غير مباشر.
وحسب بحثنا؛ فقد ظهرت مؤخرًا بعض الشركات السياحية على صلة بشخصيات متصلة بالسلطتين المصرية والفلسطينية، والتي تسهل عمليات التنسيق بشكل علني، حيث تعمل على إدراج اسم المسافر في قوائم خاصة للسفر خلال مدة أقصاها 48 ساعة. وذلك بعد أن يدفع المسافر مبلغ 200 دولار، لتأمين التسجيل وإدراج الاسم في الكشوفات الخاصة، ويدفع باقي المبلغ (1000 دولار)، بعد الوصول للصالة في معبر رفح بالجانب المصري، كما أن الأطفال تحت عمر خمس سنوات يدخلون عبر تلك الشركات في مقابل 120 دولارًا، في مقابل 600 دولار للأطفال من سن خمس سنوات وحتى 16 سنة 600 دولار.
تحت غطاء الشركات السياحية
تحت اسم “هلا للاستشارات والخدمات السياحية” نشطت الشركة منذ سنوات قليلة وخاصة منذ العام 2019، والتي تقدم نفسها عبر صفحتها الرسمية على تطبيق فيسبوك بأنها “تقدم خدمات السفر والسياحة وخدمة نقل المسافرين (VIP) لمعبر رفح البري بأفضل الطرق وأحدث وسائل النقل”، أيضًا ظهر في منشور سابق بتاريخ العام 2021، توجيه الشركة لأهالي غزة لكيفية التواصل مع وكلائها في القطاع، حيث قالت: “زبائن شركة هلا في قطاع غزة. رغم الأوضاع الصعبة التي يمر بها القطاع في هذه الأوقات، والتزامًا منا بخدمتكم في كافة الأوقات. نؤكد لكم التزامنا ببنود برنامج السفر vip حيث أننا ومن خلال وكيلنا في غزة ملزمين بتوفير وسيلة النقل لكم من منزلكم في القطاع إلى معبر رفح البري، و تغطيتنا كافة النفقات والرسوم الخاصة بكم حتى وصولكم لوجتهكم في القاهرة”.
حاولنا العثور على معلومات تخص الشركة في دليل شركات السياحة داخل مصر، والذي يقدم على الموقع الرسمي لوزارة السياحة والآثار، لكننا لم نعثر على أية معلومات بخصوص شركة تحمل نفس الاسم. فقط وجدنا معلومات حول شركة تسمى “هلا للخدمات السياحية” وتحمل ترخيصًا رقم (1233) وعنوانها منطقة الزمالك في وسط العاصمة القاهرة. في حين تعرض الصفحة الرسمية للشركة المقصودة أن مقرها يقع في حي مدينة نصر شمال شرق العاصمة. بعد ذلك تواصلنا هاتفيًا مع الشركة والتي رفضت إمدادنا بأية معلومات بشأنها، ورفضت الإجابة على تساؤلات: من يمتلك الشركة بالتحديد؟ ومنذ متى تم تأسيسها؟ وكيف نصل إلى رقم سجلها التجاري وترخيصها؟ وهل الشركة خاضعة لتنظيم إدارة وزارة السياحة والآثار؟. لم نجد إجابة سوى على تساؤل وحيد بشأن استمرارية الشركة في التعاون لنقل العالقين في غزة في ظل الحرب الجارية. وجاء الرد بأن عمليات النقل متوقفة حاليًا منذ بدء الحرب بالنسبة للشركة؛ ما وضع علامات استفهام كبيرة حول حقيقتها، خاصة وأنه من المفترض أن تكون معلومات التأسيس وأسماء وصفات مجلس الإدارة معلنة وغير سرية.
وجدنا أيضًا أنه وبتاريخ يونيو من العام 2022، نشر موقع الجزيرة الإخباري عبر صفحته على فيسبوك، حول التزام الشركة بنقل الفلسطينيين المسافرين عبر معبر رفح، وذلك “بناء على توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي”؛ ما جعلنا نتساءل حول علاقة الجهات السيادية بتلك الشركة على وجه التحديد، خصوصًا وأن هناك بعض ممن علّقوا قائلين: “الشركة لابن السيسي، وقد ارتفعت رسوم التنسيق”. وهو ما يطرح تساؤلات أيضًا حول علاقة محمود السيسي بالشركة، حيث تردد اسمه بأنه مالكها دون وجود أي دليل على ذلك. وحسب تقرير صحفي فإن مسؤول الشركة من الجانب الفلسطيني في غزة يدعى أسامة أبو نقيرة، يعمل موظفًا ببلدية رفح، ويتعاون مع المسئولين عن عمليات التنسيق في الجانب المصري، وهم أطراف من المخابرات المصرية -حسب ما ذكر في التقرير-، في حين أنه يبدو أن حركة المقاومة حماس التي تحكم القطاع منذ العام 2007، قد أبدت اعتراضها على إجراءات التنسيق، وأغلقت بعض المكاتب التي أعلن عنها في الجانب الفلسطيني مرارًا. والجدير بالذكر أننا لم نجد أيضًا أي دليل معلن بخصوص هذا الصدد.
وحسب ما توصلنا إليه من معلومات فإن الشركة أعلنت في العام 2019، عن خدمة جديدة مدفوعة الثمن، لنقل سكان غزة عبر معبر رفح إلى مصر، من خلال إنشاء صالة كبار الزوار داخل المعبر من الجانب المصري. ودون الخضوع للإجراءات الأمنية المعقدة التي يقابلها كل المسافرين من غزة عبر منافذ الدخول ونقاط التفتيش الحدودية والداخلية المصرية. حيث وحسب تصريح من مصدر مسؤول داخل الشركة في العام 2019، فإنها تعمل على: “توفير منحة السفر الكاملة، بدءا من نقل المسافر من القطاع، وصولاً للمكان الذي يرغب أن يصل إليه، أو بالعكس، وتشمل تكلفة تأشيرة الدخول عبر المعبر، وأجرة النقل، وكافة الخدمات التي توفر الرفاهية الكاملة والأمان للمسافر”. وحسب المصدر الذي لم يعلن عن نفسه في تصريحاته، فإن رسوم الخدمة وصلت إلى نحو 1200 دولار للشخص البالغ، و600 دولار للأطفال فوق الثامنة. مشيرًا إلى أن “المسافر الفلسطيني الراغب بالانتفاع من هذه الخدمة، بإمكانه التسجيل عبر فرع الشركة بغزة، حيث أن إجراءات التسجيل للسفر عبر الشركة، هي نفس إجراءات التسجيل لدى وزارة الداخلية الفلسطينية؛ لكن مع الأخذ بالاعتبار السرعة والراحة”. مؤكدًا أن الشركة خاصة ولا تتصل بأية علاقات مع الحكومتين المصرية أو الفلسطينية.
تنسيقات فردية
في السياق نفسه، حصلنا على تسجيلات صوتية لعملية تنسيق بالاتفاق مع أحد شهود العيان العالقين داخل قطاع غزة، حيث اتفقنا معه على الاتصال بمنسق يدعى “وحيد زعرب”، وكما ورد في التسجيلات فإن المنسق قال: “الأمور ليست بتلك السهولة الآن، نحاول إخراج عدد قليل في كل مرة يفتح فيها المعبر، الآن يتم طلب ما بين 2000- 3000 دولار على خروج الفرد”. وقد حاولنا التفاوض من خلال مصدرنا على تخفيض المبلغ المطلوب؛ إلا أنه واجه ذلك بانفعال شديد، مطالبًا إياه بعدم التواصل معه ثانية.
وكررنا التجربة مع مصري آخر عالق بالداخل، تواصل مع أحد العاملين بالتنسيق والذي ذكر أنه يعمل تحت مسمى شركة “رفح الشرقية” والتي يديرها من مطعم يسمى “مناجيش”، والذي أخبره بأن تكلفة المواطن المصري الراغب في العبور من غزة إلى مصر عبر التنسيقات تصل إلى نحو 350 دولار من سن 16 عام. بينما للأطفال ما بين الـ10-16 عام فإن تكلفة انتقالهم نحو 250 دولار، ومن عمر عام إلى 10 سنوات فإن التكلفة 120 دولار. معلقًا: “ستقوم بدفع مبلغ تأمين 200 دولار لكل فرد بالغ، و120 دولار تأمين على الطفل القاصر، بينما تدفع كامل المبلغ في الجانب المصري من المعبر عند العبور”.
عالقون لأننا مصريين
وفق بيان رسمي من القاهرة أمس، فقد أعلنت السلطات المصرية، استقبال أكثر من 6 آلاف أجنبي و236 جريحًا فلسطينيا عبر معبر رفح الحدودي منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر الماضي. الأمر الذي أظهر غضبًا غير محدود من العالقين المصريين في غزة ممن تواصلنا معهم أثناء إعداد التحقيق، حيث يطالبون بضرورة فتح المعبر والإجلاء الفوري للمصريين، والالتزام بما أقره الدستور المصري والقانون؛ خاصة وأنه تكرر فتح المعبر خلال الأسبوعين المنصرمين ولكن لعبور الرعايا الأجانب والفلسطينيين من مزدوجي الجنسية والذين يخرجون تحت غطاء “كشوفات المصريين”. ووفق رصدنا للقوائم اليومية فإن هناك عدد من العائلات التي يستمر إدراجها في أي من تلك القوائم بشكل دوري؛ ما أثار غضب أهالي العالقين الذين ينتظرون إدراج ذويهم في قوائم العبور. يقول محمد: “يبدو أن مسألة عبور مزدوجي الجنسية تأتي كغطاء ضمن مفاوضات غير معلنة لتهجير آخر ممنهج للفلسطينيين من حاملي الجنسية المصرية وهم يمثلون نسبة كبيرة من سكان قطاع غزة البالغ ما يقارب 2 مليون و400 ألف مواطن غزيّ (حسب تقارير صحفية في العام 2012، فإنه قد تم حصول 50 ألف فلسطيني على الجنسية المصرية، بعد تطبيق حكم محكمة محلية صادر بشأن منح الجنسية المصرية لمن ينتمون لأم مصرية)”. متساءلًا عن موعد عبور المصريين وعمن يحمل في الحقيقة مفاتيح العبور من المعبر الحدودي.