ما الذي يدفع أطبّاء مصر إلى الهجرة؟

ارتفعت نسبة الأطبّاء المصريّين المهاجرين إلى بريطانيا 202%، وذلك منذ عام 2017 حتّى 2021
مي سعودي

“من أمن العقاب أساء الأدب” هكذا بدأت الطبيبة هند حديثها مع “زاوية ثالثة”، بشأن الاعتداء عليها من بعض المرضى أو ذويهم. هند طبّيّة نساء وتوليد، تعمل في مستشفى حُكوميّ -فضلت عدم ذكر اسمه-، وتعاني ضغط العمل الشديد في ظلّ تناقص الإمكانيّات الطبّيّة والدوائيّة اللازمة لأداء عملها.

تقول إن الاعتداء على الطاقم الطبّيّ داخل المستشفى أصبح جزءًا من الحياة اليوميّة، خاصّة مع ازدياد أعداد المرضى في مقابل ضعف الإمكانيّات الطبية وقُدرة المستشفيات الحكوميّة على الاستيعاب؛ لتصبح هند وبعض زملائها حالات مُدرجة في سلسلة اعتداءات متكرّرة على الأطبّاء في أثناء العمل.

في عام عام 2022؛ بلغ عدد الأطبّاء المقيّدين بسجلّات النقابة العامّة للأطبّاء 380 ألف طبيب، منهم 125 ألف طبيب يعملون في الحكومة. وفي عام 2023 أفادت بيانات النقابة أنّ نحو 120 ألف طبيب مصريّ مسجّل لديها يعملون بالخارج؛ ما يشكّل نحو 67% من إجماليّ الأطبّاء. ووفق البيانات فإنّ نسبة الأطبّاء للمرضى محلّيًّا أصبحت 8.6 طبيب لكلّ 10 آلاف مواطن، بينما حدّدت منظّمة الصحّة العالميّة النسبة على أن تكون 23 طبيبًا لكلّ 10 آلاف مواطن. ممّا يزيد عدد ساعات العمل المقرّرة للأطبّاء لتصل إلى 96 ساعة في الأسبوع تقريبًا، وبحسب هند: “يؤثّر ذلك على صحّة الطاقم الطبّيّ النفسيّة والجسديّة”. 

يوثّق هذا التقرير تزايد حالات الاعتداء على الأطبّاء بدنيًّا ولفظيًّا في أثناء العمل، نتيجة انعدام وسائل الأمان اللازمة داخل المستشفيات، ما أنتج بيئة عمل طاردة للأطبّاء، ساهمت في رفع معدّلات الهجرة إلى الخارج، بحثًا عن بيئة عمل آمنة ورواتب عادلة، ليؤدّي ذلك إلى ارتفاع نسبة عجز الأطبّاء داخل القطاع الطبّيّ الحكوميّ. 

رسم بياني 1: أعداد المصابين من الطاقم الطبي في محافظات مصر
رسم بياني 1: أعداد المصابين من الطاقم الطبي في محافظات مصر



أعددنا قاعدة بيانات لـ 99 حادث اعتداء على أطبّاء حكوميّين داخل المستشفيات من أرشيف الصحف، ومجموعات أطبّاء على وسائل التواصل الاجتماعيّ في الفترة من يناير 2018 وحتّى أغسطس 2023، وذلك لعدم توفّر قواعد بيانات وإحصاءات رسميّة توثّق حالات الاعتداء على الأطبّاء في مصر. 

كشفت قاعدة البيانات التحليليّة أنّ مستشفيات محافظتي الغربيّة والقاهرة بالترتيب تشهد أكبر نسب اعتداء على الأطقم الطبّيّة، فيما اتّضح أنّ أكثر من يتعرّضون للاعتداء هم الأطبّاء، ويليهم العاملون بالمستشفى، وبعد ذلك تأتي هيئة التمريض. وأفاد تحليل البيانات أنّ مستشفيات القطاع الحكوميّ تحظى بالنسبة الأكبر من الاعتداءات بنحو 83% من إجماليّ حوادث الاعتداء خلال الفترة الزمنيّة الّتي رصدت.

رسم بياني 2: تصنيف نوع المستشفى بالنسبة لنوع المصابيين
رسم بياني 2: تصنيف نوع المستشفى بالنسبة لنوع المصابيين


تقول هند: “الأطبّاء في مصر يتعرّضون لضغوط كثيرة من الجهات جميعها، في ظلّ بيئة عمل غير آمنة، ما يدفع الكثير منّا إلى الابتعاد عن العمل في القطاع الحكوميّ في ظلّ ضعف عوامل الأمان والإمكانيّات والعمل لساعات متواصلة إلى جانب ضعف المرتّبات”.

رسم بياني3 : تصنيف ملكية المستشفى مع حجم الخسائر
رسم بياني3 : تصنيف ملكية المستشفى مع حجم الخسائر

 


الاعتداء يدفع الأطبّاء للاستقالة 

كشفت نقابة الأطبّاء في أبريل 2022 عن أرقام وإحصاءات وصفتها بـ”المفزعة”. إذ شهدت الشهور الأولى للعام المذكور استقالة 934 طبيبًا من العمل الحكوميّ، رغم حصولهم على شهادة طبيب حرّ من نقابتهم. وقالت النقابة إنّ هذه الأرقام تتطلّب تدخّلًا عاجلًا وجادًّا لبحث معوّقات وعراقيل المنظومة الصحّيّة.
وعبّر مجلس النقابة عن استيائه من عدم التفات الجهات المعنيّة لما وصفه بـ”الخطر المتزايد لمشكلات القطاع الطبّيّ”، وأرجع تدهور القطاع إلى تجاهل عراقيل المنظومة الصحّيّة وعدم التحرّك لمواجهتها، ويأتي على رأسها بيئة العمل غير الآمنة للأطبّاء.

 

رسم بياني4 :لتصنيف نوع المستشفى مع نوع واقعة الاعتداء
رسم بياني4 :لتصنيف نوع المستشفى مع نوع واقعة الاعتداء

اتّفق الدكتور خالد أمين -الأمين العامّ المساعد للنقابة العامّة للأطبّاء- في حديثه إلى “زاوية ثالثة” مع تلك التحذيرات، خاصّة بعد رفض مقترح قانون لتغليظ عقوبة الاعتداء على الأطبّاء، وإدراج بعض البنود من شأنها حمايتهم إلى قانون المسؤوليّة الطبّيّة الجاري بمناقشته بمجلس النوّاب، مُوضّحًا أنّ القانون وحده غير كاف، وأنّ السبب الرئيس في الأزمة هو غياب التأمين اللازم للطاقم الطبّيّ والممتلكات العامّة المتمثّلة في المستشفى ومحتوياتها.

وشدّد على ضرورة تخصيص ميزانيّة لتوفير التأمين والحماية اللازمة للطاقم الطبّيّ والمستشفيات، لاسيّما أنّ بيئة العمل داخل المستشفيات أصبحت أحد الأسباب الرئيسيّة لاستقالة الأطبّاء من العمل بالقطاع الحكوميّ، والسعي نحو الهجرة للعمل بالدول المجاورة أو الدول الأوروبّيّة. مؤكّدًا عدم وجود إحصائيّات دقيقة بحجم الاعتداء الّذي يتعرّض له الأطبّاء، وأنّ 90% من الحالات يتصالح فيها قبل اتّخاذ الإجراءات القانونيّة، وأنّ هناك اعتداءات أخرى تكون النقابات الفرعيّة فيها هي المسؤولة عن دعم الطبيب المعتدى عليه.

وأشار الأمين العامّ المساعد لنقابة الأطبّاء إلى أنّ معدّل الأطبّاء الّذين يقدّمون على ترك العمل بوزارة الصحّة والسعي نحو السفر يزداد يومًا بعد يوم، حيث أقدم نحو 2200 طبيب على الاستقالة من المستشفيات التابعة لوزارة الصحّة، وتحويل نشاطهم إلى طبيب حرّ خلال العام الماضي، أي بمتوسّط 6 أطبّاء يوميًّا. مضيفًا: “كلّ طبيب تعرّض للاعتداء، ولم يتمكّن من الحصول على حقّه، استقال أو اتّجه إلى السفر إلى الخارج، خاصّة مع إجراءات التعامل غير المنصّفة مع الاعتداءات”. 
وأظهر تحليل البيانات أنّ زيادة معدّل الاعتداء داخل المستشفيات الحكوميّة على الأطبّاء صاحبه معدّل آخر متزايد في خسائر المستشفيات للأجهزة الطبّيّة والمحتويات؛ نتيجة الاشتباكات من مواطنين. وتبيّن حوادث الاعتداء أنّ فقد تلك الأجهزة يتسبّب في تعطيل الخدمات الطبّيّة المقدّمة بالمستشفيات، وأنّه لا تعوّض ثانية بصورة سريعة.

 

قانون المسؤوليّة الطبّيّة

يَقُصّ أحمد – طبيب نساء وتوليد في مستشفى حكوميّ بالقاهرة-، آخر الاعتداءات الّتي تعرّض لها ويقول: “حَضَرَتْ مَرِيضَةً فَاقِدَةً لِلْوَعْي إلى المستشفى بصحبة زوجها وبعض أقاربها، وبعد إسعافها وعمل الإجراءات الطبّيّة اللازمة، قرّرنا خروجها من المستشفى، ولكنّ زوجها أصرّ على إبقائها، وعندما رفضنا؛ اعتدى على الطاقم الطبي بدنيًّا.

بحسب تقرير للقوى العاملة في بريطانيا حول «حالة التعليم والممارسة الطبّيّة في المملكة المتّحدة» ارتفعت نسبة الأطبّاء المصريّين المهاجرين إلى بريطانيا 202%، وذلك منذ عام 2017 حتّى 2021.

وذكر التقرير أنّ 435 طبيبًا مصريًّا هاجروا إلى بريطانيا في 2017، زادوا في العام التالي إلى 756 طبيبًا، ثمّ ارتفع العدد إلى 1301 طبيبًا في 2019، وفي 2020 انخفض إلى 1220 طبيبًا، ثمّ عاود الارتفاع إلى 1312 طبيبًا في 2021.

ووفقًا للتقرير، تأتي مصر في الترتيب بعد الأردنّ والسودان في دول الشرق الأوسط في هجرة الأطبّاء إلى بريطانيا؛ إذ ارتفع عدد اﻷطبّاء العاملين في المجال الصحّيّ في بريطانيا بين عامي 2017 و2021 بنسبة 17%، بواقع 283 ألفًا و 663 طبيبًا. 

مع زيادة مُعدّلات الاعتداء على الأطقم والمنشآت الطبّيّة في المستشفيات بمختلف المحافظات، زادت الحاجة إلى إقرار قانون المسؤوليّة الطبّيّة، باعتباره الحلّ لمواجهة الاعتداءات على الفرق الطبّيّة، والطريق الأسرع لاستقرار المنظومة الطبّيّة. فلا بدّ من توفير عوامل جذب للأطبّاء في مصر، كضمان وجود فرصة للتعليم الطبّيّ المستمرّ لكلّ خرّيج، وبيئة عمل صالحة وهو ما سيدعمه إقرار قانون المسؤوليّة الطبّيّة، وتغليظ العقوبة على المعتدين على الفريق الطبّيّ. 

وفي هذا السياق، قال وكيل لجنة حقوق الإنسان بمجلس النوّاب الدكتور أيمن أبو العلا – في حديثه لـزاوية ثالثة؛ أنّ القانون يعمل على توفير بيئة عمل آمنة للطبيب وحمايته، في الوقت ذاته يضمن حماية المريض وتقديم خدمة صحّيّة جيّدة له، مشدّدًا على ضرورة القضاء على ظاهرة الاعتداءات المتكرّرة على المنشآت والأطقم الطبّيّة، من خلال تغليظ العقوبة.

وعلى الرغم من أنّ مشروع القانون قابله رفض من نقابة الأطبّاء، إلّا أنّ “أبو العلا” أوضح أنّه تمّ مؤخّرًا شُكلت لجان استماع بعدد من الكيانات المختلفة المعنيّة؛ منها وزارة الصحّة ومجلس النوّاب والمجلس القوميّ لحقوق الإنسان؛ واتُّفِقَ على معظم النقاط، إضافة إلى تقديم ثلاث مقترحات جديدة لمشروع القانون، وتشمل بنود خاصّة بتغليظ عقوبة الاعتداء على الأطبّاء لتوفير بيئة عمل صحّيّة وجاذبة للطاقم الطبّيّ، لتقليل معدّل هجرة الأطبّاء للخارج.

تأثيرات نفسية

تقول طبيبة التوليد هند: “بعد حادثة الاعتداء الأخيرة، ساءت حالتي النفسية بشدة نتيجة الوضع المأساوي الذي نتعرض له”، مشيرة إلى أنها سعيت للسفر إلى الخارج لاستكمال دراستها وعملها، متطلعة إلى بيئة عمل جيدة ومرتب تكفي احتياجاتها، على حد وصفها.

وكشف تحليل قاعدة البيانات الّتي جُمعت، أن حجم الاعتداء البدنيّ الّذي يتعرّض له الطاقم الطبّيّ من قبل بعض المرضى أو ذويهم، يأتي على رأس الاعتداءات الأخرى المتمثّلة في الاعتداء اللفظيّ والاعتداء بالتحطيم لمحتويات المستشفى، وذلك خلال الفترة الّتي رصدت.
من جانبه، استنكر الدكتور منصور خليل -مدير مستشفى الهرم- في حديثه لـ “زاوية ثالثة” تكرار حوادث الاعتداء، موضّحًا أنّه في مثل هذه الحالات تتّخذ المستشفى إجراء حاسمًا؛ لأنّها تعتبر تعدّي على موظّف في أثناء تأدية عمله، ويحرّر محضر بالواقعة وإثبات الخسائر الناجمة؛ سواء كانت بشريّة، أو في الممتلكات الخاصّة بالمستشفى.
وشدّد على أهمّيّة تقدير المجهود الكبير الّذي يبذل داخل المستشفيات لاسيّما العامّة منها، والّتي تستقبل مئات المرضى يوميًّا، موضّحًا أنّ قسم الطوارئ بمستشفى الهرم يستقبل يوميًّا نحو 250 مريضًا. مؤكّدًا أنّ استقالة معظم الأطبّاء من العمل ترتبط بالعوامل المادّيّة وبيئة العمل.

مع كلّ حادثة، يزيد نزيف خسائر الدولة في الموارد البشريّة والممتلكات العامّة، ولذلك يرى الأطبّاء الّذين قابلناهم ضرورة الإسراع في إصدار مشروع قانون المسؤوليّة الطبّيّة، كضرورة ملحّة لانتظام تقديم الخدمة الصحّيّة وضبط آليّات التعامل بين مقدّمها ومتلقّيها. وحسب الأطبّاء فإنّ ذلك خطوة أوّليّة على طريق منع تدفّق الأطبّاء المصريّين إلى الخارج. 

 

 

مي سعودي
صحفية مصرية ومعدة تحقيقات، عضوة في نقابة الصحفيين

Search