عمرها النضالي 55 عامًا وعاصرت كل الحروب، ولدت في العام 1952، في قرية عبسان جنوب شرق قطاع غزة لأب فلسطيني وأم مصرية. اعتقلت لأول مرة عقب نكسة العام 1967 من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي وهي في عمر الـ16، ووجهت لها خمس اتهامات لم تنفيهم بل تفتخر بهم؛ منها المشاركة في المظاهرات، والانتماء لمجموعة “جيفارا غزة” الفدائية، وهي التي ترتب عليها اعتقالها في سجون الاحتلال مدة عامين. ثم في اليوم التالي من الإفراج عنها، أصدرت حكومة الاحتلال قرار بإبعادها إلى الأردن، لتكون أول فدائية مُبعدة وهي في عمر الثامنة عشر فقط. إنها الفلسطينية مريم أبو دقة.
قابلتها زاوية ثالثة في القاهرة عقب ترحيلها من فرنسا نتيجة نشاطها المقاوم هناك للتعريف بالقضية الفلسطينية، وكان لنا معها هذا اللقاء..
أبعدني الاحتلال عن وطني
“فتحت عيني على القهر والاحتلال وما فعله من مصائب وكوارث في وطني فلسطين، انخرطت في النضال الوطني في سن صغيرة واعتقلت وأنا في مرحلة الإعدادية، وأعتبر أن فترة اعتقالي مصدر قوتي وصلابتي”. هكذا تتحدث “أبو دقة” عن نشأتها وإبعادها عن وطنها وتقول: أبعدني الاحتلال عن وطني، وعلقت لمدة 11 يومًا على “جسر الأردن” على الحدود بين الأردن وفلسطين، لا السلطات الأردنية توافق على إدخالي ولا الاحتلال يقبل عودتي إلى وطني، وليس معي سوى أوراق المحكمة فقط، فقد خرجت دون بطاقة هوية أو أي إثبات للشخصية حتى، وفي النهاية اختطفني رفاق في النضال من على الجسر وأدخلوني إلى الأردن، الذي خرجت منه بعد عامين، بالتزامن مع حوادث أيلول الأسود متجهة إلى لبنان”.
مريم التي شاركت في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وانتمت إلى الجبهة الشعبية، حدثتنا عن نشاطها المستمر منذ صباها ولم يتوقف حتى اللحظة، فتقول: “شاركت في أنشطة للمقاومة بفلسطين والأردن، وأصبحت مسؤولة لفصيل عسكري في لبنان، وشاركت أيضًا ضمن وفد فلسطيني في مهرجان الشبيبة العالمي في دولة كوبا في العام 1981”.
أشرفت “أبو دقة” على تأسيس منظمة الشبيبة الفلسطينية التابعة للجبهة الشعبية، واتحاد لجان المرأة الفلسطينية، وكانت ممثلة للجبهة الشعبية في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية. وتولت منصب أمين سر الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية في ليبيا في العام 1983. وأصبحت عضوا في اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في العام 1992، وعضوا في المجلس الوطني منذ العام 1995.
تقول: “شاركت في مؤتمرات ومهرجانات وفعاليات دولية للحديث عن القضية الفلسطينية والمرأة الفلسطينية، في نفس الوقت لم يغب عني استكمال دراستي، والتي نعتبرها جزء من النضال والمقاومة لا يجب الإغفال عنه، فللمقاومة أشكال متعددة منها أيضًا الرياضة والموسيقى والفن عامة، وبالطبع التعليم والدراسة”.
العودة الثانية إلى الوطن
عادت “أبو دقة” إلى وطنها ومسقط رأسها في غزة، بعد أكثر من 30 عامًا من الإبعاد، وذلك بعد عامين من توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993 بين حكومة الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث تصفها أبو دقة بـــــــ”سيئة السمعة والصيت”. تقول: “بعد الاتفاقية استطاع الكثير من المبعدين العودة إلى فلسطين، لكن بالنسبة إليّ استمر الوضع كما هو عليه، ثم بعد عامين حصلت على تصريح زيارة لأسرتي في غزة، وعدت بعد 30 عامًا. كانت أمي مازالت على قيد الحياة، لكن أبي وشقيقتي قد فارقوها”.
في رحلة العودة إلى بلدتها تتذكر مريم أن كل شيء كان مختلفًا عما تركته وقت إبعادها، فالمنازل لم تعد كما كانت، والأصدقاء والجيران رحل من رحل وتبدلت ملامح وقسمات وجوه الباقين. تحكي مريم عن عودتها: “خرجت من غزة صغيرة السن وعُدت بشهادة دكتوراه في الفلسفة، خرجت وأنا عنصر مناضل ومقاوم وعُدت وأنا قائد وطني، وبدأت مجددًا في الاندماج في العمل المجتمعي والسياسي بعد أيام قليلة من العودة”.
أوسلو “سيئة السمعة”.. لماذا؟
عن أسباب وصف اتفاق أوسلو بسيئة السمعة تقول: “هذا الاتفاق أحد أسباب تأزم القضية الفلسطينية، فإن الاعتراف بإسرائيل يعتبر تنازل عن الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه التاريخية من النهر إلى البحر؛ وأدى هذا الاتفاق أيضًا إلى انقسام مستشري بين المقاومة الفلسطينية. وهذا أخطر على المشروع الوطني الفلسطيني من نكبة العام 1948”.
رحلة إلى فرنسا لم تكتمل
قبل أيام من شن الإحتلال الإسرائيلي حربه الجارية على قطاع غزة، تلقت “أبو دقة” دعوة من 4 كيانات تقدمية يسارية في فرنسا لإلقاء 17 محاضرة، وحضور عرض فيلم عن القضية الفلسطينية بعنوان “يلا غزة” لمناقشة الجمهور والتعليق على الفيلم، والذي يحكي عن ظروف الاحتلال والواقع والحصار والدمار والحروب التي يتعرض لها القطاع.
تستطرد: “بعد أن تلقيت الدعوة من كيانات تقديمة يسارية لزيارة فرنسا والحديث عن القضية الفلسطينية، حصلت على الفيزا و تأشيرة الدخول بشكل طبيعي وبعد وصولي بأيام قليلة وتحديدًا في 16 أكتوبر الماضي، وُضعت قيد الإقامة الجبرية، في فندق بمدينة مرسيليا الفرنسية، بقرار من وزير الداخلية الفرنسي. وفي نفس يوم العدوان على غزة اعترضتني سيارة وأنا في طريقي لمدينة “تولوز” بفرنسا للمشاركة في إحدى الفعاليات المدعوة لها، حيث أوقفوني عنوة في منتصف الطريق وأعلموني بأني قيد الاحتجاز الجبري بقرار من وزير الداخلية، وتم سحب أوراقي والتحفظ على جواز سفري لتنفيذ القرار.
تقول: “قلت للقوة التي كانت تنفذ القيد الإجباري، دولتكم فرنسا تدّعي دومًا الديمقراطية والحضارة، لكني اكتشفت أنني لابد أن أعلمكم المعنى الحقيقي للديمقراطية، لماذا تمنعوني من الحديث عما يحدث في فلسطين؟ أين التعددية وحرية الرأي؟ لقد استشهد 30 من أسرتي، ولابد من الحديث عنهم، وإذا كانت تهمتي أنني عضوة في منظمة تحرير فلسطين واجهوني بهذا الانتماء السياسي”. حسب وصفها، فأثناء حديثها مع القوات الأمنية، أكدت على أن جبهة التحرير معترف بها دوليًا ولها سفارة في فرنسا منذ اتفاق أوسلو، وإذا كانت فرنسا غير معترفة بالجبهة فعليها إغلاق السفارة.
بعد ساعات تم الإفراج عن “أبو دقة” وأعادوا لها جواز سفرها، لكن في المقابل ألغت وزارة الداخلية تصريح دخولها إلى الأراضي الفرنسية “الفيزا”؛ ما يعني حرمانها من دخول جميع الدول الأوروبية لاحقًا. لكن في الثامن من نوفمبر الجاري، أوقفتها الشرطة ثانية بعد أن صدر قرار بترحيلها من فرنسا، في هذا تقول: “بعد صدور قرار ترحيلي هجموا عليَ ملثمين يحملون سلاحًا ناريًا أثناء عودتي الى المنزل، وتعدوا عليّ بالضرب على رأسي باستخدام السلاح الناري، وقاموا باختطافي، تخيلت لوهلة أنهم قطاع طريق، لكني فوجئت أن السلطة نفسها عصابة، ومن ثم تم اقتيادي إلى السجن”.
تجربة السجن في فرنسا
تقول مريم أبو دقة عن تجربة السجن التي استمرت لمدة أربعة أيام حتى تنفيذ قرار الترحيل: “لا أتصور إنه حتى في بلد عالم ثالث سيكون السجن مثل ما وجدته أو تعرضت له في فرنسا، تم تجريدي من كل أغراضي حتى حذائي وكنت حافية القدمين، والجلوس والنوم على مقعد خشبيّ، كنت مصابة جدًا ورأسي متورمة من آثار الضرب، و أرتجف من البرد الشديد ومنعت حتى من ارتداء الحذاء. لذا فورا أعلنت إضرابي عن الطعام والماء، وشعرت بالخوف من أن يتم اغتيالي بالسم”.
تستكمل: “تم نقلي خلال أيام الاحتجاز إلى أربعة سجون كل يوم سجن وكل سجن أصعب من ما قبله. أثناء احتجازي كانت التظاهرات تحتشد أمام باب السجن تضامنا معي، ومع إجراءات نقلي إلى الطائرة في أخر يوم سلمني الأمن الفرنسي جوال صغير والذي من خلاله تواصل معي المتظاهرون الذين عقدوا مؤتمر صحفي ضخم من أجلي، وظلوا يهتفون باسمي كلنا مريم …كلنا مريم”. وتصف المناضلة الغزيّة: “عرضوا على المتظاهرين أن أطلب اللجوء، لكني رفضت وقلت لهم قبضة تراب من الوطن العربي أفضل من قصر الإليزيه ومزبلة في غزة أفضل من كل أوروبا بالنسبة إليّ”.
العدوان على غزة واستهداف النساء والأطفال
تعلق مريم أبو دقة على العدوان على غزة وتقول “مثلي مثل كل الشعب الفلسطيني نتوقع دائمًا الاعتداءات الإسرائيلية في أي وقت وهو ما يحدث كل عام، الاحتلال لم يتوقف يوما عن التعدي علينا ودائما ما كانوا يجدون المقاومة بالمرصاد؛ لكن الشكل والنمط هذه المرة فاجأنا جميعًا نحن الفلسطينيون، فلأول مرة لم تكن قوات الاحتلال هي المهاجمة كعادتها، هذه المرة هم من هوجموا في العمق”. وحتى اللحظة لم يستطع الاحتلال الوصول إلى مراده في غزة وما زال يشعر بالهزيمة، وهذا ما جعلهم ينتقمون بقصف المدنيين، فكلما اشتد القصف والعنف والقتل معناه أنهم مهزومين على أرض المعركة، هكذا تصف ما يفعله الاحتلال بقطاع غزة.
استهداف النساء والأطفال.. والمواقف الأوروبية
وعن استهداف الاحتلال للنساء والأطفال تحديدًا تقول: “عادة ما يستهدف الاحتلال النساء والأطفال، لأنهم يقولون أن المرأة تلد وتربي أبنائها ترضعهم من حليب الثورة، المرأة الفلسطينية تربي أبنائها على العزة والكرامة ودائما ما تحثهم على المقاومة، أما قتل الأطفال لأنهم يعلمون أنهم فدائيو المستقبل، هم يستهدفون الفئات الهشة والضعيفة لأسباب أيدلوجية ولخوفهم لأنهم لا يستطيعون هزيمة المقاومة”.
تقول: الحكومات الغربية وأمريكا تدعم جيش الاحتلال بشكل غير مسبوق، على الرغم من جرائم الحرب التي يرتكبها في غزة، بل وصل الأمر إلى وصف ما يحدث بحق سلطة الاحتلال بأنه في إطار الدفاع عن نفسها، في هذا ترى “أبو دقة” أن هناك حرب عالمية ثالثة عنوانها قطاع غزة لكنها تستهدف المنطقة بأكملها، لأن هذا التقدم للمقاومة والثورة هدد الكيان الصهيوني الذي هو بالأساس صنيعة الإمبريالية العالمية وفي مقدمتها أمريكا التي لديها مهمتين الأولى في أوكرانيا والثانية في غزة؛ لأنها تريد السيطرة تمامًا على منطقة الشرق الأوسط، وتعتبر كيان الاحتلال حارسًا لمصالح الإمبريالية في المنطقة.
تقول “لتسهيل تنفيذ أجندتهم المقاومة في أوكرانيا قالوا عن أبناء أوكرانيا والمتضامنين معها مقاومة، لكن في فلسطين يسمونهم بالإرهابيين؛ لأنهم يريدون مصالحهم من فلسطين ويريدون السيطرة عليها، فالدول الغربية وأميركا يتلاعبان بالمصطلحات وفقًا لمصالحهم وما يريدون”.
تضيف، غزة اكتشفوا فيها غاز مهم جدا، هذا الغاز محروم منه الغرب بعد حرب أوكرانيا، وبالتالي هم يريدون الغاز ليضربوا الاتجاه الآخر (الصين وروسيا)، كما أنهم يريدون اتمام مشروع قناة بن جوريون (قناة بن جوريون أو القناة الإسرائيلية، مشروع مقترح لقناة مائية في كيان الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى الربط بين خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط. يُقترح أن تسمى القناة على اسم دافيد بن غوريون الأب المؤسس لكيان الاحتلال وأول رئيس وزراء له).
وماذا عن موقف الشعوب؟
تؤكد “أبو دقة” أن هناك انفصال بين الشعوب والحكومات الأوروبية، وأن موقف الشعوب الأوروبية تغير كثيرًا وأصبح هناك تضامن مع القضية الفلسطينية بشكل كبير، ففي وقت نكبة العام 1948، لم ترى الشعوب المجازر التي ارتكبها الاحتلال وقتئذٍ، لكن مع التطور التكنولوجي وتعدد وسائل التواصل أصبحت المجازر صوت وصورة، فقبل ذلك كانت تروج رواية الاحتلال فقط، لكن الآن يتم تداول المجازر التي يرتكبونها، وهو ما كشف حقيقتهم أمام شعوب أوروبا وأمريكا، حتى اليهود تظاهروا تضامنا مع حق الفلسطينيين ضد الاحتلال، لأنهم يؤمنون أن اليهود ليس لهم دولة وفقا لأحكام دينهم.
ومن الغرب إلى الشرق، وعن موقف الدول العربية ترى أبو دقة، أن وحدة الصف العربي مهمة جدا، على سبيل المثال. البترول الذي تمتلكه دول مجلس التعاون الخليج ويعتبر سلاح قوي للضغط على الدول الأوربية وأمريكا، وأنه “لابد وأن يكون هناك موقف سياسي موحد على الأقل لمقاطعة هذا المحتل مثلما حدث في الأردن مثلا التي رفضت إبرام اتفاقية المياه مقابل الطاقة (في نوفمبر من العام 2021، اجتمعت سلطة الاحتلال الإسرائيلي والأردن والإمارات، ضمن معرض “إكسبو 2020 دبي” على إعلان نوايا لصفقة بعنوان “الكهرباء مقابل الماء”، بحضور المبعوث الأميركي للمناخ، جون كيري، حيث عدت أكبر صفقة تعاون إقليمي، تشمل عدة مشاريع في مجال الطاقة والمياه).
وتختتم أبو دقة حديثها معنا مؤكدة أن الاحتلال يستهدف الدول العربية كلها، وأن الوطنية تقتضي أن يكون هناك موقف عربي موحد “موقف سياسي” يستخدم كافة الأسلحة السياسية التي في أيدي العرب. لكن على غير المتوقع فهناك من يتسابقون على التطبيع أملًا أن يحميهم كيان الاحتلال مثل: البحرين والإمارات العربية المتحدة؛ لذا فالاحتلال وحده هو المنتصر إن استمرت الأوضاع على ما هي عليه. وترى أن وحدة الصف الفلسطيني والشراكة والتعددية مبدآن ضروريان لتحقيق التحرير المنتظر لكامل الأرض الفلسطينية التاريخية.