أزمة غذائية حادة في مصر: كيف تُثقل أخطاء الإصلاح الاقتصادي صحة المصريين؟

أكثر من 40٪ من المصريين يعانون فقر الدم، في بلد تُطعم فيه الأزمة الاقتصادية النشويات وتُقصي البروتين
Picture of آية ياسر

آية ياسر

في وقتٍ تعاني فيه قطاعات واسعة من المصريين من تبعات الأزمة الاقتصادية وخفض قيمة الجنيه المصري بنحو 40%، ومعدلات التضخم التي بلغت نسبتها السنوية، في فبراير الماضي، 12.5%، والتي ألقت بظلالها على أسعار المنتجات الغذائية؛ إذ بلغ متوسط معدل تضخم الطعام والشراب في مصر، نحو 31.6 %، خلال 2024 مقابل 63.5 % خلال 2023، مما أثر سلبًا على قدرة العديد من الأسر المصرية على تأمين احتياجاتها من الغذاء الصحي؛ فإن 40% من المواطنين المصريين يعانون من فقر الدم، بحسب ما أظهرت نتائج المسح الصحي الذي تم في إطار مبادرات “100 مليون صحة”، التي أعلنها وزير الصحة، خالد عبد الغفار، في مارس المنقضي، مؤكدًا تأثير فقر الدم بالسلب على الطاقة الإنتاجية للفرد ويمثّل عبئًا اقتصاديًّا على الدولة.

وتحتل مصر المرتبة الأولى بين البلدان العشرة التي لديها أعلى مستوى تضخم في أسعار المواد الغذائية في تقييم البنك الدولي، الصادر بتاريخ 13 نوفمبر ، 2023، بنسبة 36%، وخلال الأشهر الأخيرة ارتفعت أسعار البروتين الحيواني في مصر إلى مستويات قياسية، ليتجاوز سعر كيلو الدواجن 105 جنيه، ويتخطى سعر كيلو اللحم البلدي 400 جنيه، ويسجل سعر كيلو السمك البلطي في الأسواق 90 جنيه، وانخفض استهلاك المصريين من اللحوم الحمراء من 18 طنًا، لكل ألف من السكان عام 2018 إلى 9 أطنان لكل ألف من السكان في عام 2022، وفقًا لإحصائية صادرة عن مركز بصيرة، بينما تشير الإحصائيات العالمية إلي أن متوسط نصيب الفرد على مستوى العالم بلغ نحو 41.90 كيلوجرام سنويًا، في حين أظهرت دراسة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في أغسطس 2022، أن 74% من الأسر المصرية خفضوا استهلاكهم من السلع الغذائية بسبب ارتفاع الأسعار في عام 2022، مبينة أن 90 % من الأسر خفضت استهلاكها للبروتينات الحيوانية، وأن 68 % من الأسر انخفض استهلاكها من البيض، وأن 57 % من الأسر انخفض استهلاكها من الخضروات، ونحو 69 % من الأسر انخفض استهلاكها من الفاكهة، وفي غضون تلجأ نسبة كبيرة من الأسر الفقيرة في مصر، إلى النشويات، للحصول على على السعرات الحرارية اللازمة للبقاء على قيد الحياة.

وتقع مصر في المرتبة 77 عالمياً من بين 113 دولة في مؤشر الأمن الغذائي العالمي لعام 2022، والمرتبة 57 من أصل 121 دولة في مؤشر الجوع العالمي، وتعد ضمن 36 بلداً يتركز فيها 90٪ من عبء سوء التغذية العالمي، وفقًا لـ”اليونيسيف”، والتي قدرت وقتئذٍ معدلات التقزم بين الأطفال دون الخامسة في عام 2014 بنحو 21٪، ومعدلات نحافة الأطفال 8% ونقص الوزن 6٪، ونسبة انتشار الأنيميا (فقر الدم أو نقص في الخلايا الحمراء / الهيموجلوبين في الدم بين الأطفال دون سن الخامسة بنحو 27.2٪ ونسبة 25٪ بين النساء في سن الإنجاب، فيما قدّرت بيانات صادرة عن منظمة الصحة العالمية، معدلات انتشار فقر الدم لدى النساء في مصر، اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و 49 عامًا، بنحو 28.3% في عام 2019، ويأتي ذلك في وقتٍ يعيش فيه 29.7% من السكان في مصر تحت خط الفقر، ويعاني 14.4% من السكان من انعدام الأمن الغذائي، بحسب برنامج الأغذية العالمي (WFP).

ويظهر مؤشر الحالة التغذوية، الصادر عن التعبئة والإحصاء، أن التقزم يُصيب واحدًا من كل سبعة أطفال دون سن الخامسة، وبلغ معدل التقزم في مصر 13% في عام 2021، ويُعاني 4% من الأطفال دون سن 5 سنوات من نقص الوزن، ومن بين كل تسعة أطفال، يُعاني واحدًا من الزيادة في الوزن، حيث تبلغ نسبة الأطفال الذين يُعانون من زيادة في الوزن 11.5%. وتتصدر محافظات الصعيد قائمة أكثر المحافظات انتشارًا لسوء التغذية.

وتُعزي اليونيسيف ارتفاع معدلات سوء التغذية في مصر إلى عدم كفاية المدخلات الغذائية، وتراجع نسب الرضاعة الطبيعية المطلقة، وضعف الحصول على نظام غذائي متوازن لدى الشرائح الأفقر من المجتمع، إضافة إلى العادات الغذائية السيئة ونقص الوعي الغذائي بين السكان.

 

نوصي للقراءة: مصر الأكثر تضررًا من تضخم أسعار الغذاء.. لماذا؟

زيادة الأنيميا وتراجع التقزم والهزال

يعزي د. إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الدواء وعلم انتشار الأمراض والأوبئة بكلية الصيدلة، في جامعتي عين شمس ومصر الدولية، والرئيس التنفيذي لشركة «أكسيت» لأبحاث الدواء والصحة، ارتفاع نسبة فقر الدم وسوء التغذية في مصر، إلى انخفاض جودة النظام الغذائي نتيجة زيادة الاعتماد على الكربوهيدرات المكررة والدهون الضارة والسكريات، مع انخفاض استهلاك الفواكه والخضروات، مما يؤثر على المناعة والنمو، إضافة إلى تفاوت الإتاحة والقدرة الشرائية؛ إذ أن أكثر من 81% من السكان لا يستطيعون تحمل تكلفة نظام غذائي صحي، و45% لا يستطيعون تأمين نظام غذائي يحتوي على الحد الأدنى من المغذيات، ووقوع 29.7% من المصريين تحت خط الفقر، وتركز المعدلات الأعلى لسوء التغذية في ريف الصعيد والمناطق الحضرية الفقيرة، لافتًا إلى نقص الوعي التغذوي نتيجة ارتفاع معدل الأمية بين النساء إلى 30.8%، مما يؤدي إلى ضعف فهمهن للاحتياجات الغذائية لأسرهن، مٌحذرًا من تراجع معدلات الرضاعة الطبيعية إلى 40% للأطفال دون 6 شهور ومعدلات الولادة القيصرية المرتفعة التي تؤثر على بداية الرضاعة وتغذية الرضع، حيث تصل النسبة إلى 72.2%، مما يؤدي إلى انتشار سوء التغذية.

يقول، إلى زاوية ثالثة: “إن مشكلة سوء التغذية في مصر تبدأ من فترة الحمل، ثم مرحلة الرضاعة والسنوات الأولى من حياة الطفل، وتجري مصر منذ عام 2019 فحوصات لأطفال المدارس، بإجمالي 10 مليون تلميذ سنويًا، في إطار المبادرة الرئاسية للكشف عن أمراض سوء التغذية، وساهمت في تراجع المعدلات إلى حد ما، وكان مردودها الاقتصادي، العام الماضي جيدًا، وساهمت مبادرة الأنيميا في الحفاظ على 649 ألف سنة حياة للأطفال بسبب التشخيص المبكر للحالات، ونحو 2.9 مليون جودة حياة، ووفرت للاقتصاد المصري 8.4 بيليون جنيه، وعاد الإنفاق على المبادرة بعائدات قدرها 29%، ويجب تعميم المبادرة على المرحلة ما قبل المدرسة وما بعد الصف السادس الابتدائي، لاسيما في ظل ارتفاع نسبة فقر الدم في مصر، خلال الفترة من 2014 إلى 2022″، مبينًا أن مبادرة الألف يوم الذهبية من حياة الطفل، والاستراتيجية القومية للغذاء والتغذية التي أطلقتها مصر في 2023، تسعيان إلى الحد من نسب فقر الدم وسوء التغذية.

ويؤكد عنان، أن الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر، ساهما في زيادة نسب سوء التغذية وفقر الدم؛ إذ يعد ضعف القدرة الشرائية عاملًا رئيسيًا في سوء التغذية، أدى إلى الاعتماد على أطعمة غنية بالسعرات وفقيرة بالمغذيات بسبب قلة الموارد، لافتًا إلى تأثير جائحة كورونا على فقدان الدخل خاصة في القطاعات غير الرسمية، ما أدى لتقليل جودة الغذاء، موضحًا أن فقر الدم يؤثر على التطور العقلي للأطفال، مما ينعكس على تحصيلهم الدراسي وفرصهم المستقبلية، والأنيميا تقلل من الإنتاجية في سوق العمل وتزيد من التكاليف الصحية، معتبرًا أن برامج الكشف المبكر عن الأنيميا وسرطان الثدي والفيروسات الكبدية أظهرت توفيرًا اقتصاديًا واضحًا من تكاليف العلاج وفقد الإنتاجية.

وكانت المبادرة الرئاسية للكشف عن سوء التغذية، قد انطلقت في يناير 2019، للكشف المبكر عن أمراض مثل السمنة والأنيميا، والاهتمام بصحة تلاميذ المدارس، بتكلفة إجمالية قدرها 165 مليون جنيه، وفقًا للموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية، إذ تم إجراء الكشف الطبي على حوالي 15 مليون طالب وطالبة في الفئة العمرية من 6 سنوات وحتى 12 سنة في أكثر من 22 ألف مدرسة، على أن يتم تحويل الطفل المصاب إلى لجان الإحالة بالتأمين الصحي للعلاج بالمجان.

وتحسنت مؤشرات التقزم في مصر من 21% في 2014 إلى 13% في 2021، والهزال من 8% إلى 3%، إلا أن نسبة الأنيميا زادت من 27% إلى 43% بين الأطفال دون سن الخامسة خلال الفترة من 2014 إلى 2021، بحسب ما يكشف خبير اقتصاديات الصحة.

ويوضح عنان أن الاستراتيجية الوطنية للغذاء والتغذية (2023- 2030)، التي شارك في إعدادها، ممثلًا عن اليونيسيف، تقر بأهمية البرنامج القومي لتعزيز رغيف الخبز بالمغذيات الدقيقة (الحديد والفوليك)، الذي توقف عام 2014، وتدعو لتعزيزه كأداة لمحاربة الأنيميا، وتحديث تركيبات المواد المضافة للخبز وفقًا لتوصيات منظمة الصحة العالمية وتعزيز آليات الرقابة على جودة الإضافة، والتوسع في برامج التوعية حول أهمية الرغيف المدعم كمصدر للمغذيات، مؤكدًة أنه ثبت علميًا أن تدعيم الأغذية بمغذيات دقيقة يقلل من نسب الأنيميا وسوء التغذية، واعتبارها تكلفة منخفضة مقارنة بتدخلات علاجية، إلا أن أستاذ اقتصاديات الصحة يؤكد أنه لا يجب الاعتماد على البرنامج وحده، لكون سوء التغذية قضية متعددة الأبعاد، ولا يعوض البرنامج نقص البروتين أو الفيتامينات الأخرى، بل يجب أيضًا الاستثمار في برامج الرضاعة والتغذية المدرسية، وفرض ضرائب على المشروبات السكرية وتقليل الملح والدهون المشبعة في الأطعمة، وتعزيز التعليم الغذائي في المدارس والإعلام، وربط الزراعة بالتغذية من خلال إنتاج محاصيل غنية بالمغذيات.

 

نوصي للقراءة: ارتفاع الأسعار يدفع المستهلكين إلى مغامرات خطيرة

تعثر  التغذية المدرسية

في ظل ارتفاع معدلات فقر الدم وسوء التغذية بين الأطفال في مصر، يتسائل الكثيرون حول أسباب تعثر تعميم مشروع الوجبات المدرسية، بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 160، الصادر بتاريخ 15 سبتمبر2021 ، بالتعاقد مع شركة سايلو فودز، المملوكة للحكومة، لتنفيذ منظومة التغذية المدرسية، وتم تقديم التغذية المدرسية لجميع محافظات الجمهورية؛ إذ بلغ عدد المدارس المستفيدة بالتغذية بمرحلة رياض الأطفال 18306 مدرسة فقط، وعدد المدارس المستفيدة بالتغذية سنويًا بمرحلة التعليم الابتدائي 32331 مدرسة، و2931 مدرسة بمرحلة التعليم الإعدادي، و388 مدرسة بمرحلة التعليم الثانوي، و436 مدرسة بمرحلة التعليم الثانوي الفني، بينما بلغ عدد المدارس المستفيدة بالتغذية في مدارس التربية الخاصة 1048 مدرسة، وفقًا لبيانات صادرة عن وزارة التربية والتعليم في عام 2023.

وفي ديسمبر 2024 تقدمت النائبة البرلمانية أميرة صابر، أمين سر لجنة العلاقات الخارجية عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، بطلب إحاطة إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير التربية والتعليم، بشأن تعثر تعميم مشروع التغذية المدرسية في مصر، مؤكدة أنها إحدى مشروعات الأمن القومي المصري وأحد برامج الحماية الاجتماعية، التي تدعم ملايين الأسر المتأثرة بالوضع الاقتصادي بتوفير وجبة يومية للأطفال، مما يخفف أعباء المصاريف المدرسية ويعزز المساواة بين الطلاب كما يساهم في مواجهة مشكلات التغذية كالتقزم والسمنة، في وقتٍ يعاني فيه أكثر من 30٪ من أطفال المدارس المصرية من اضطرابات سوء التغذية، مما يحسن صحة الأطفال ونموهم البدني والعقلي، ويساعد في تفوقهم الدراسي ولاحقًا، الوظيفي.

 وتوضح النائبة أن الدولة المصرية اتجهت منذ إصدار القانون رقم 25 لعام 1942 إلى تقديم وجبات غذائية لطلاب المدارس، إلا أن البرنامج شهد توقفًا في السنوات الأخيرة بسبب حالات التسمم التي ظهرت، قبل أن يُعاد تنفيذه بشكل متقطع، في أغسطس 2021، إذ أعلن رئيس الجمهورية عن توجّه الدولة نحو توفير وجبات غذائية تغطي 25٪ من احتياجات الطلاب اليومية وقد تم التعاقد مع إحدى الشركات لتنفيذ المشروع بناءً على قرار مجلس الوزراء رقم 160 لعام 2021، مبينة أنه وفقًا لأحدث البيانات، ومنذ بداية العام الدراسي 2023/2024 وحتى نهاية نوفمبر، تم إنتاج وتوزيع 435 مليون وجبة مدرسية، منها 368 مليون وجبة لطلاب مدارس وزارة التربية والتعليم، و67 مليون وجبة لطلاب مدارس الأزهر الشريف، بالإضافة إلى 10.8 مليون وجبة أخرى. ومع ذلك، لا يزال المشروع يواجه عددًا من التحديات، تتمثل في ضمان ديمومة وشمول التجربة، والتي يكمن حلها في دمج البرنامج في السياسة العامة المصرية والموازنة العامة، خاصة مع التكلفة الكبيرة لهذا البرنامج والتي تقارب الـ٨ مليار جنية، وتعزيز إجراءات السلامة، مؤكدة أن المشروع لا يزال متعثرًا نسبيًا بسبب تداخل العديد من الجهات وعدم الشفافية وعدم قدرة التجربة على التعميم في ظل الموجة التضخمية ومحدودية الموازنة.

وشهد يناير من العام الجاري توقيع اتفاقية تعاون بين شركة بيل إيجيبت المتخصصة في بيع وتوزيع المنتجات الغذائية، وبنك الطعام المصري، بحضور وزيري الصحة والتعليم، لدعم برنامج التغذية المدرسية في ضوء مبادرة “إيد في إيد.. لأن التغذية حق للجميع”، بهدف تحسين الصحة العامة ومكافحة الأمراض الناتجة عن سوء التغذية بين الطلاب مثل السمنة والأنيميا والتقزم، والحد من ظاهرة التسرب المدرسي.

 

نوصي للقراءة: مصر: تقليص دعم حليب الأطفال يضع الأسر الفقيرة في أزمة 


أخطاء الإصلاح الاقتصادي

تمثل معدلات فقر الدم والتقزم بين الأطفال وانخفاض نسبة المواليد ومعدلات إجهاض النساء الحوامل، أهم مؤشرات الفقر والجوع بين الدول، وجميعها متوفرة في مصر، بحسب ما يؤكد نادر نور الدين، الخبير الاستراتيجي بالجمعية العمومية لمنظمة الفاو، إلى زاوية ثالثة، مُحملًا الحكومة المصرية مسئولية ذلك نتيجة تراجع مستويات الدخل وارتفاع معدلات الفقر، مما أدى لتسجيل أقل نسبة مواليد في تاريخ مصر، العام الماضي، وارتفاع معدلات التقزم وفقر الدم بين المصريين، لافتًا إلى دراسة صادرة عن مركز بصيرة تظهر انخفاض استهلاك المصريين من اللحوم، العام الماضي، إلى النصف، رغم كون المعدل بالأساس أقل بقليل من المعدلات العالمية.

ويوضح خبير الفاو أن انخفاض نسبة الهيموجلوبين عن معدلاتها الطبيعية التي تتراوح بين 15 إلى 17 جرام لدى الرجال، ومن 13 إلى 15 جرام في النساء، يؤدي إلى انخفاض القدرة الإنتاجية للعمال؛ إذ يعتمد الفقراء على النشويات والكربوهيدرات من خبز وأرز ومكرونة لسد احتياجاتهم من الطعام، مما يخلق لديهم فقر الدم وسمنة كاذبة وهشاشة العظام أو تقزم الأطفال وإجهاض الحوامل، عازيًا ذلك إلى أخطاء الإصلاح الاقتصادي في مصر، داعيًا الحكومة لوضع خطة للنهوض بصحة الفقراء وبالتالي تحسين الإنتاج.

وكانت وزارة التموين والتجارة الداخلية، قد أطلقت في 10 مارس الجاري، البرنامج القومي لتعزيز الخبز البلدي المدعم للوقاية من أنيميا نقص الحديد، بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي ووزارة الصحة والسكان، إذ أنه من المقرر إضافة المغذيات الدقيقة إلى رغيف الخبز البلدي المدعم الذي يمثل عنصرًا أساسيًا في النظام الغذائي المصري، للمساهمة في الحد من المشكلات الصحية المرتبطة بنقص العناصر الغذائية الأساسية، لا سيما أنيميا نقص الحديد.

يقول نور الدين: “إن أي دولة يتدخل بها البنك الدولي لعمل إصلاح اقتصادي فإن ذلك يكون على حساب الفقراء، الذين يتحملون الفاتورة، ويفترض بالدولة زيادة السلع التموينية ومضاعفتها، وصرف حصص من اللحوم والأسماك، وتعميم توزيع وجبات التغذية المدرسية بين أطفال المدارس، لتوفير وجبة الإفطار لهم، وإضافة الحديد إلى رغيف الخبز، وكنا قد أضفنا اليوم إلى رغيف الخبز المدعم في مصر، عام 2005، لانتشار أمراض الغدة الدرقية وقئذٍ”.

ويشير الخبير إلى أن الاهتمام بتوزيع وجبات التغذية المدرسية يتركز بشكل أكبر على أطفال المدارس في المحافظات الأكثر فقرًا، وعلى رأسها سوهاج والتي تبلغ نسبة الفقر بها نحو 67%، وتليها أسيوط بنسبة 65%، وتليهما محافظتي قنا وأسوان، لافتًا إلى أنه يفترض توزيع تلك الوجبات – التي تشارك في دعمها منظمات دولية -، على مختلف محافظات مصر، ومراعاة وجود عشوائيات في القاهرة والمدن الكبرى، ووجود فئات فقيرة من أبناء العمال وحراس العقارات تعيش في المناطق الراقية وتستحق تلك الوجبات، مما يحول دون التسرب من التعليم وانخفاض قدرات الأطفال على التحصيل الدراسي.

ويعتقد نور الدين أن المبادرات والإحصائيات الناجمة عن المسح الصحي والتي تظهر معدلات انتشار سوء التغذية والإجهاض، يجب أن تعقبها توصيات مثل: زيادة الدخل وكميات السلع التموينية وصرف البقوليات وزيت فول الصويا والعسل الأسود معها، وإضافة الحديد وحمض الفوليك إلى رغيف الخبز التمويني، مؤكدًا أن تطبيق توصيات البنك الدولي المتمثلة في رفع الدعم أو تخفيضه لا يجب ألا تكون على حساب الحفاظ على صحة الشعب والأطفال، كي لا يؤدي ذلك لانخفاض متوسط الأعمار وانخفاض القدرة الإنتاجية وبالتالي شيخوخة الدولة، لا سيما أن رفع الدعم عن الغذاء هو المرحلة الأخيرة بحسب مبادئ الأمم المتحدة والفاو.

 

نوصي للقراءة: الري بمياه الصرف الصحي يهدد الأمن الغذائي في القليوبية

الصحة العامة وموازنة القطاع الصحي

بحسب تقرير صادر عن وزارة الصحة والسكان، فقد بلغ إجمالي الإنفاق الفعلي على الصحة في مصر 255.6 مليار جنيه مصري، بما يمثل 4.6 % من الناتج المحلي الإجمالي، وازدادت المخصصات المالية للقطاع الصحي بالموازنة الجديدة 2024/2025، بنسبة 24.9%، لتصل إلى نحو 496 مليار جنيه، مقارنة بـ 397 مليار جنيه خلال العام المالي 2023/2024،  إلا أن نسبة الإنفاق الحكومي على الفرد في قطاع الصحة بمصر لا تزال محدودة بالمقارنة بالمقاييس العالمية لحجم الإنفاق؛ إذ تصل إلى 40 دولارًا للمواطن، في حين تصل إلى 300 دولار في بعض دول العالم.

وكان وزير المالية المصري، محمد معيط، قد أعلن أن الحكومة ستزيد الإنفاق على قطاع الصحة بنحو 25% وقطاع التعليم بنسبة 45% في ميزانية العام المالي القادم، وتعهد وزير الصحة والسكان بزيادة الإنفاق الحكومي على الصحة من 28% إلى 33%، مع خفض الإنفاق الشخصي على الصحة.

ويرى د. أيمن سبع، الباحث في قضايا الصحة، بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والرئيس التنفيذي لمؤسسة شمسية لحلول الرعاية الصحية المجتمعية المبتكرة، أن الجوانب الاقتصادية أحد أبرز مسببات سوء التغذية في مصر، وهي بالإضافة لذلك تؤدي إلى تداعيات اقتصادية؛ إذ أن انخفاض القدرة الشرائية للمنتجات الغذائية لدى الأسر الفقيرة يجعلها تعتمد على بدائل غير صحية لكونها أرخص سعرًا، مثل: المنتجات المصنوعة من الزيوت النباتية المهدرجة، كالسمن والزبد الصناعي والأجبان النباتية، والأطعمة المقلية في زيوت مهدرجة، وهي تعد من مسببات الجلطات القلبية والمخية وأحد أبرز أسباب الوفيات المفاجئة في مصر، مستنكرًا صرف بعض السلع التموينية تحتوي على الزيون المهدرجة أو توزيع منتجات غذائية على أطفال المدارس بها زيوت مهدرجة.

يؤكد سبع أنه يتوجب على الدولة احترام الحق في الصحة لدى المواطنين وعدم التعدي عليه وحمايته، واتخاذ خطوات إيجابية لضمان ذلك، عبر تشريعات وقوانين ولوائح، تضمن حماية المواطنين من المواد الغذائية التي تهدد حياتهم، وتقديم المعلومات الكافية حول الأغذية الصحية وغير الصحية، مقترحًا أن تحذو مصر حذو دول أخرى حول العالم، بوضع جملًا تحذيرية على المنتجات المهددة لصحة المواطنين، كما تفعل مع علب السجائر، ووضع شروط معينة لتحصل المنتجات الغذائية على شعار “خالي من الزيوت المهدرجة”، وفرض رقابة على المطاعم وسلاسل محلات تقديم الحلويات لضمان عدم تقديمها لتلك الزيوت في منتجاتها.

يقول، إلى زاوية ثالثة: “قبيل إطلاق المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن سوء التغذية، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرًا تضمن أرقامًا صادمة المعدلات السمنة وسوء التغذية في مصر، تقترب من نصف المصريين؛ فسارعت وزارة الصحة لإجراء مسح طبي على عينة أكبر، وتم التركيز بشكل أكبر على الأطفال والنساء الحوامل، عبر تقديم الفيتامينات وحمض الفوليك واليود”، مشيرًا إلى أنه توجد في مصر معدلات عالية لانخفاض الوزن والتقزم بين الأطفال والسمنة المفرطة، إضافة إلى فقر الدم ونقص الفيتامينات والأملاح المعدنية بين الأطفال والنساء في سن الإنجاب.

 ويشير الخبير في قضايا الحق في الصحة، إلى أن الوجبة المدرسية لأطفال المدارس، تعد ضمن الحقوق الأساسية للأطفال في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا ودولًا إفريقية، وأن تعميم تنفيذها في مصر، رغم تكلفتها العالية سيضمن حصول الأطفال على احتياجاتهم الغذائية الأساسية وتزيد من قدرتهم على التحصيل الدراسي ويؤدي إلى الحد من التسرب من التعليم، معتبرًا أن تعزيز رغيف الخبز التمويني بالمغذيات يمكن أن يكون حل جيد بشكل مؤقت، وستتضح نتائجه فيما بعد.

 

نوصي للقراءة: قانون الخصخصة يهدد مستقبل الرعاية الصحية بمصر

تأثيرات التضخم والتعويم

يرى بعض الخبراء والمحللون أن خفض قيمة الجنيه المصري انعكس سلبًا على مخصصات الموازنة العامة؛ إذ بلغت قيمة ميزانية وزارة الصحة في 2014 – 2015 نحو 42.4 مليار جنيه، وكانت تعادل 5.7 مليار دولار وفقًا لسعر الصرف الرسمي وقتئذٍ (7.5 جنيه)، في حين بلغت الميزانية في 2023 – 2024 نحو 147.9 مليار جنيه، إلا أن قيمتها تعادل نحو 3 مليارات دولار بسعر الصرف الرسمي آنذاك (49 جنيه)، بتراجع قيمته نحو 47%.

ويوضح محمد رمضان، الباحث الاقتصادي بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن السياسات الاقتصادية المتبعة في مصر خلال السنوات الأخيرة، التي أدت لارتفاع نسبة التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية، تسببت في انخفاض قدرة المصريين على الوصول للغذاء الجيد، ولجوء نسبة كبيرة منهم للغذاء الرديء منخفض السعر، واعتمادهم على النشويات والكربوهيدرات والزيوت المهدرجة، للحصول على الطاقة؛ مما يخلق العبء المزدوج في التغذية، المتمثل في حدوث السمنة وفقر الدم، مما ينعكس على صحة المواطنين وتكلفة الإنفاق على الصحة والقدرة الإنتاجية، مشيرًا إلى أنه لا توجد دراسات تقييم أثر لتوضيح آثار حزم الحماية الاجتماعية على تغذية الأسر المصرية المستفيدة منها.

يقول إلى زاوية ثالثة: “إن مقارنة التكلفة الاقتصادية للفاقد من الإنتاج نتيجة فقر الدم وسوء التغذية، بقيمة الإنفاق على مشروع وطني لتعميم توزيع الوجبة الغذائية على أطفال المدارس، سترجح كفة المشروع، إلا أن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية لتنفيذه، ويعد المشروع القومي لتعزيز رغيف الخبز التمويني بالمغذيات أمرًا إيجابيًا إلا أنه ليس الحل الجذري لمشكلة سوء التغذية، والذي يتطلب القضاء على مشكلة الفقر عبر سياسات زراعية وغذائية وصحية”.

ويضيف الباحث أن الإقرار بزيادة الإنفاق على القطاع الصحي في مصر، لا يعني بالضرورة ارتفاع القيمة الفعلية لمخصصات، في ظل معدلات التضخم العالية وانخفاض قيمة الجنيه، معتبرًا أن مقارنة قيمة الإنفاق الحالي بالدولار الأمريكي، مع قيمتها في عام 2019 قبل حدوث التعويم، يكشف عن انخفاضها وليس العكس.

 

نوصي للقراءة: وقود بلا دعم.. المصريون أمام موجة غلاء جديدة

غياب الوعي الغذائي لدى المواطنين

يعتقد د. سيد حماد، أستاذ التغذية بالمعهد القومي للتغذية، أن السبب الرئيسي لارتفاع معدلات سوء التغذية في مصر، ونسبة فقر الدم والتقزم وانتشار السمنة، يرجع إلى نقص الوعي الغذائي والتغذوي لدى المواطنين وعدم معرفتهم بمكونات المنتجات الغذائية، والتي يتزامن مع عدم قدرتهم على الحصول على الأغذية الصحية في ظل انخفاض المستوى الاقتصادي، وقلة وعيهم بالبدائل الجيدة المتاحة، الذي يجعلهم يقبلون على شراء المنتجات الغذائية الأقل تكلفة والتي تحقق الشبع مثل: الكربوهيدرات والنشويات والسكريات، وإهمال البروتينات ومصادر الفيتامينات، مما يسبب السمنة وفقر الدم.

ويشير أستاذ التغذية إلى وجود بدائل غذائية تحتوي على الحديد، وهي أقل تكلفة من اللحوم الحمراء، مثل: لحوم الأعضاء الداخلية للحيوانات وصفار البيض، والمصادر النباتية كالخضروات الورقية الطازجة والبقوليات وبعض الفواكه، إلا أن هناك غياب للوعي الغذائي بأهمية تناول أطعمة تحتوي على فيتامين ج للمساعدة على امتصاص الحديد الموجود في المصادر النباتية، معتبرًا أن تعميم توزيع الوجبات المدرسية هو حل جيد لمواجهة سوء التغذية لدى الأطفال، لكونها محسوبة العناصر الغذائية والسعرات الحرارية، وتغطي ثلث الاحتياجات الغذائية لهم.

وفي وقتٍ تتواصل فيه جهود الدولة لمكافحة فقر الدم وأمراض سوء التغذية لدى المصريين، – والتي شهدت ارتفاعًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة -، عبر تنفيذ مبادرات رئاسية مثل: الكشف عن أمراض سوء التغذية بين طلاب المدارس، والألف يوم الذهبية من حياة الطفل، ومبادرة الأنيميا، وإطلاق الاستراتيجية القومية للغذاء والتغذية، والبرنامج القومي لتعزيز الخبز البلدي المدعم للوقاية من أنيميا نقص الحديد، فإن الخبراء يؤكدون أن الحل الجذري للأزمة يتمثل في تعزيز الجهود الحكومية للقضاء على الفقر الذي ارتفعت معدلاته كفاتورة للإصلاح الاقتصادي وتوصيات البنك الدولي.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search