تشهد محاكم الإرهاب المصرية موجة غير مسبوقة من الإحالات، إذ رصدت زاوية ثالثة، إحالة نيابة أمن الدولة العليا 138 قضية إلى المحاكمة الجنائية خلال أربعة أشهر فقط، من أكتوبر 2024 وحتى يناير 2025. تعود هذه القضايا إلى الفترة بين 2017 و2024، وتشمل أكثر من 8 آلاف متهم، معظمهم لا يزالون قيد الحبس الاحتياطي، فيما أُفرج عن عدد محدود منهم على ذمة التحقيقات.
ويمثل هذا العدد من القضايا المحالة أكبر موجة إحالات منذ عام 2013، لا سيما في ظل اقتصار محاكم الإرهاب على ثلاث دوائر فقط، ما أثار مخاوف واسعة بين المحامين والحقوقيين بشأن قدرة هذه المحاكم على توفير محاكمات عادلة تضمن الحقوق القانونية للمتهمين. وأعربت هيئات الدفاع عن قلقها من أن تؤدي هذه الكثافة إلى إطالة أمد المحاكمات لسنوات.
وتشير مراجعة أجرتها “زاوية ثالثة” إلى أن القضايا المحالة تتوزع على مدار ثماني سنوات، إذ تشمل خمس قضايا تعود لعام 2017، وأربع قضايا من عام 2018، وتسع قضايا من 2019، بالإضافة إلى 26 قضية من 2020، و44 قضية من 2021، و46 قضية من 2022، إلى جانب ثلاث قضايا من 2023، وقضية واحدة فقط من 2024.
ويرى مراقبون أن هذا التحرك القضائي يهدف إلى نقل ملف المحبوسين احتياطيًا إلى سلطة القضاء، في محاولة لتحسين صورة حقوق الإنسان في مصر، خصوصًا في ظل الانتقادات المتزايدة من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية الدولية، التي نددت بتجاوز مدد الحبس الاحتياطي القانونية المنصوص عليها في القانون المصري، والمحددة بعامين كحد أقصى. وتُسجل حالات حبس احتياطي تجاوزت سبع سنوات في قضايا تعود لعام 2017 دون أي تقدم قضائي.
ورغم هذا التحرك، يبقى القلق قائمًا من أن يؤدي تراكم القضايا إلى إطالة أمد المحاكمات، ما يثير تساؤلات حول وجود نية حقيقية لإنهاء ملف المحبوسين احتياطيًا أو أن الأمر لا يعدو كونه إعادة صياغة للمشكلة تحت غطاء قضائي جديد.

نوصي للقراءة: بين استعراض جنيف وذكرى يناير: مصر في قبضة الأمن
سياسيون وصحفيون وحقوقيون بارزون
أحالت نيابة أمن الدولة العليا أكثر من 8 آلاف شخص إلى المحاكمة، وفق ما أكده مصدر قضائي بارز لـ “زاوية ثالثة”. وشملت هذه الإحالات شخصيات سياسية وصحفية وأكاديمية وحقوقية بارزة، من بينهم ثلاثة أعضاء سابقين بمجلس الشعب: باهي الدين محمد عبد الدايم منصور، وأحمد محمد عبد الهادي، وعبد الله أحمد الهنداوي.
وضمت القائمة عددًا من الصحفيين البارزين، مثل جمال الجمل، وأحمد أبو زيد الطنوبي، وحسام السويفي، إضافة إلى توفيق غانم، المدير الإقليمي السابق لوكالة الأناضول، والمصور الصحفي حمدي الزعيم. كما شملت الإحالات رياض كمال الدين، شقيق الإعلامي سامي كمال الدين.
وفي المجال الحقوقي، أُحيلت المحامية هدى عبد المنعم، والناشط الحقوقي إبراهيم عبد المنعم متولي، مؤسس رابطة أهالي المختفين قسريًا، والمحامي أحمد نظير الحلو، إلى المحاكمة.
أما في الجانب الأكاديمي والسياسي، فقد شملت الإحالات أستاذ العلوم السياسية أمجد خليل الجباس، والباحث معتز بالله حسب النبي، والطبيب حاتم محمد راشد، مستشار وزير التموين الأسبق.
لم تقتصر الإحالات على الشخصيات العامة، بل طالت أيضًا أفرادًا من أسر قيادات سياسية، مثل الحسين خيرت الشاطر، نجل نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، وأنس محمد البلتاجي، نجل القيادي محمد البلتاجي. كما شملت علا القرضاوي، نجلة الداعية الراحل يوسف القرضاوي.
تأتي هذه الإحالات في ظل تزايد الانتقادات الحقوقية بشأن استخدام المحاكمات كوسيلة لتضييق الخناق على الأصوات المعارضة، وسط تساؤلات عن نوايا السلطات في التعامل مع ملف الحريات العامة.
نوصي للقراءة: منصة العدالة المتصدعة: بدل الطعون يثير الغضب في ساحات القضاء المصري
اتهامات موحدة في جميع القضايا
حصلت “زاوية ثالثة” على وثائق تؤكد أن القضايا التي أحالتها نيابة أمن الدولة العليا إلى محاكم الإرهاب خلال الأشهر الأربعة الماضية تضمنت اتهامات متطابقة. وأفاد مصدر قضائي بارز في نيابة أمن الدولة العليا لـ”زاوية ثالثة” بأن الاتهامات الرئيسية في جميع القضايا جاءت متماثلة دون استثناء.
تضمنت الاتهامات تولي بعض المتهمين مناصب قيادية في جماعة إرهابية، وهي جماعة الإخوان المسلمين، التي وُجهت إليها تهم الدعوة لتغيير نظام الحكم بالقوة، والاعتداء على أفراد القوات المسلحة والشرطة ومنشآتهما، واستهداف المنشآت العامة، مع استخدام الإرهاب كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف.
كما وُجهت إلى آخرين تهم الانضمام إلى جماعة إرهابية أسست بالمخالفة لأحكام القانون، بهدف تعطيل أحكام الدستور والقوانين، وعرقلة عمل السلطات العامة ومؤسسات الدولة، والاعتداء على الحريات الشخصية للمواطنين، والإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.
وشملت الاتهامات أيضًا مشاركة عدد من المتهمين في تنفيذ أهداف الجماعة مع علمهم بأغراضها، إضافة إلى ارتكاب بعضهم جرائم تمويل الإرهاب، من خلال جمع وتوفير وحيازة ونقل وإمداد الجماعة وأعضائها بأموال ومستندات وملاذات آمنة، مع علمهم باستخدامها في ارتكاب جرائم إرهابية.
كشف مصدر قضائي بارز في نيابة أمن الدولة العليا لـ”زاوية ثالثة” أن النائب العام المستشار محمد شوقي عياد أصدر توجيهات مباشرة للمحامي العام الأول لنيابة أمن الدولة العليا، المستشار خالد ضياء الدين، بضرورة البت في القضايا العالقة منذ سنوات، والتي تجاوز أصحابها الحد الأقصى لفترة الحبس الاحتياطي المقررة قانونًا.
وبحسب المصدر، شملت التعليمات القضايا التي تعود للفترة بين 2017 و2022، حيث تجاوز المتهمون فيها مدة الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في القانون المصري، والتي لا ينبغي أن تتجاوز عامين كحد أقصى. وأوضح أن هذه الخطوة جاءت استجابة لتزايد الشكاوى من استمرار حبس متهمين لفترات أطول من المدة القانونية، وهو ما دفع النائب العام لاتخاذ قرار حاسم بإغلاق ملف المحبوسين احتياطيًا لفترات طويلة، تنفيذًا لأحكام القانون وتوصيات لجنة الحوار الوطني.
وأشار المصدر إلى أن التعليمات تنص على ضرورة إنهاء جميع القضايا المتعلقة بالمحبوسين احتياطيًا حتى عام 2022، بحيث لا تبقى أي قضية تتجاوز فيها مدة الحبس الاحتياطي السنتين. وأوضح أن التصرف في هذه القضايا سيكون إما بالحفظ لعدم كفاية الأدلة وإخلاء سبيل المتهمين، أو بإحالتها إلى المحاكمة الجنائية إذا توافرت الأدلة الكافية لإدانتهم.
وأكد المصدر أن نيابة أمن الدولة العليا تواصل التحقيقات بشكل يومي في هذه القضايا، وقد أحالت بالفعل عددًا كبيرًا منها إلى المحاكم الجنائية بعد الانتهاء من التحقيقات وتثبيت الاتهامات بحق المتهمين.
نوصي للقراءة: منزل ليلى سويف يتحول إلى مركز للتضامن في ذكرى ميلاد علاء عبد الفتاح
إحالات جماعية لتحسين الصورة
يقول الخبير القانوني والمحامي بالنقض والدستورية العليا أحمد حلمي، رئيس هيئة الدفاع عن المئات من المحالين للمحاكمة، في تصريحات إلىـ”زاوية ثالثة”، إن السلطات المصرية تحاول تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي عبر إحالة المحبوسين احتياطيًا، الذين تجاوزت مدد حبسهم الفترة القانونية المنصوص عليها في القانون المصري، والمحددة بعامين كحد أقصى. واعتبر حلمي أن هذه الخطوة تأتي في إطار مواجهة الانتقادات الدولية الواسعة، سواء على المستوى السياسي أو القانوني، بسبب ما وصفه بـ”الحبس خارج إطار القانون”.
ويضيف حلمي أن هذه الإحالات غير المسبوقة في عددها خلال فترة زمنية قصيرة جاءت استجابةً لضغوط صندوق النقد الدولي، الذي اشترط إدخال إصلاحات في ملف حقوق الإنسان كجزء من برنامج الإصلاح الاقتصادي. وأوضح أن الصندوق طالب الحكومة المصرية بالتقيد بالقانون فيما يتعلق بمدة الحبس الاحتياطي، وإنهاء ملف المحبوسين احتياطيًا الذين تجاوزت مدد احتجازهم الحدود القانونية.
يشير حلمي إلى أن السلطات لجأت لإحالة القضايا الممتدة منذ نحو ثماني سنوات إلى المحاكم، بهدف نقل ملف الحبس الاحتياطي من سلطة النيابة العامة إلى القضاء، لتجنب الانتقادات المرتبطة بتجاوز مدد الاحتجاز القانونية. وأضاف: “بهذا الشكل، يمكن للسلطات أن تنفي وجود محبوسين احتياطيين خارج الإطار القانوني، بينما في الواقع، يبقى المتهمون قيد الاحتجاز ولكن بقرارات قضائية.”
ويؤكد حلمي أن هذا الكم الكبير من القضايا المحالة للمحاكمة، في ظل وجود ثلاث دوائر فقط لمحاكم الإرهاب، يعني أن قضايا المتهمين لن يُبت فيها سريعًا. وقال: “لن تصدر أحكام في أي من هذه القضايا قبل عامين إلى ثلاثة أعوام على الأقل، وقد تمتد إلى خمس سنوات أو أكثر.” وأوضح أن طول هذه الإجراءات يعود إلى عدة عوامل، منها تحديد مواعيد الجلسات، وإجراءات عمل التوكيلات للمحامين، وتصوير القضايا، وعقد الجلسات، والاستماع إلى الشهود، والمرافعات، خاصة في القضايا التي تضم مئات المتهمين.
ويحتتم حلمي تصريحاته بالتأكيد على أن هذه العملية تُعد نقلًا مقنعًا للحبس الاحتياطي من النيابة إلى المحاكم، حيث يستمر احتجاز المتهمين، ولكن بقرارات صادرة عن محاكم الإرهاب بدلًا من نيابة أمن الدولة، مما يسمح للنظام بالخروج من مأزق تجاوز الحد الأقصى للحبس الاحتياطي المحدد قانونيًا.
نوصي للقراءة: غياب الرقابة.. من يجرؤ على مساءلة لجان التحفّظ على الأموال؟
معاناة مستمرة ونداءات للعفو الصحي
تصدرت المحامية الحقوقية هدى عبد المنعم قائمة الأسماء البارزة المحالة إلى المحاكمة الجنائية، في قضية تُعد الثالثة من نوعها التي تُحاكم فيها بنفس الاتهامات السابقة. وفي تصريح خاص لـ”زاوية ثالثة”، قال زوجها المحامي الحقوقي خالد بدوي إن الأسرة تمر بأسوأ فترات حياتها بعد إحالة زوجته في قضية جديدة، رغم انتهاء فترة عقوبتها السابقة.
وأضاف بدوي أن زوجته تعرضت لوعكة صحية حادة بعد علمها بخبر إحالتها للقضية الثالثة، ما أدى إلى تدهور حالتها النفسية والبدنية بشكل ملحوظ. وناشد رئيس الجمهورية التدخل لإصدار عفو صحي عنها، مشيرًا إلى أن زوجته تجاوزت سن الـ66 وتعاني من ظروف صحية صعبة.
وأشار إلى أن هدى عبد المنعم كانت قد حبست احتياطياً لمدة 13 شهرًا على ذمة القضية رقم 730 لسنة 2020، والتي جاءت بعد إتمامها عقوبة بالسجن خمس سنوات في القضية رقم 1552 لسنة 2018 حصر أمن دولة عليا، عن اتهامات مماثلة أصبحت أحكامها نهائية وباتة. وأوضح أنه في الوقت الذي كانت الأسرة تستعد فيه لإطلاق سراحها، فوجئوا بإحالتها إلى المحاكمة في قضية ثالثة بتهم مشابهة، ما تسبب لها في أزمة صحية ونفسية جديدة.
وفي سياق مشابه، قال محمد عبد الجواد بيدق، شقيق المتهم حمادة عبد الجواد بيدق (60 عامًا)، لـ”زاوية ثالثة” إن شقيقه حصل على أحكام بالبراءة في ثلاث قضايا سابقة، وأُخلي سبيله في قضية رابعة، رغم أن جميعها تضمنت اتهامات متماثلة. وأعرب عن صدمته من “تدوير” شقيقه في قضية خامسة تحمل نفس التهم، ما أدى إلى استمرار حبسه رغم البراءات السابقة.
وأوضح محمد أن شقيقه يعاني من ظروف صحية بالغة الخطورة، إذ يعاني من مرض الربو وحساسية شديدة في الصدر، تتفاقم بسبب الاحتجاز في أماكن ضيقة تفتقر إلى التهوية الملائمة. وأضاف أنهم تقدموا باستغاثات متعددة إلى النائب العام، ووزير الداخلية، ومصلحة السجون، ونيابة أمن الدولة العليا، ووزير العدل، للمطالبة بإخلاء سبيله أو استبدال قرار حبسه بتدابير احترازية مناسبة، لإنقاذه مما وصفه بـ”الموت البطيء” نتيجة تدهور حالته الصحية.
يؤكد المستشار محمد ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض السابق، في تصريحه إلى “زاوية ثالثة”، أن “دوائر الإرهاب” غير قانونية وغير دستورية، ولا تتوافق مع المعايير الدولية لاستقلال القضاء. ويوضح أن هناك مبدأ قانونيًا أساسيًا ينص على عدم جواز تعيين قاضٍ معين لنظر قضايا محددة، وهو ما تفتقر إليه هذه الدوائر.
ويضيف دربالة أن توزيع القضايا يجب أن يتم على قضاة مختصين بشكل دوري، لا أن تظل ولايتهم ثابتة في دوائر محددة ودائمة. ويشير إلى أن استمرار نفس القضاة في هذه الدوائر لأكثر من عشر سنوات يمثل إخلالًا بمبدأ الحياد القضائي، مما يثير شبهات حول توجيه الأحكام، وهو ما يعد انتهاكًا صارخًا للمعايير الدولية التي تضمن استقلال القضاء.
وحول إحالة هذا العدد الكبير من القضايا من نيابة أمن الدولة العليا إلى محاكم الإرهاب خلال فترة قصيرة، يوضح دربالة أن السبب الرئيسي وراء هذه الخطوة هو جلسة المراجعة الدورية الشاملة لملف حقوق الإنسان في مصر بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ويؤكد أن الهدف من هذه الإحالات هو تجميل صورة مصر أمام المجتمع الدولي، عبر الإيحاء بأنه لم يعد هناك محبوسون احتياطيًا تجاوزوا المدة القانونية القصوى للحبس الاحتياطي، والتي يحددها القانون المصري بعامين.
ويشير دربالة إلى أن إحالة القضايا للمحاكم لا تعكس نية حقيقية لإنهاء هذه الملفات أو تصفية القضايا ذات الطابع السياسي، بل تهدف فقط إلى نقل الملف من سلطة النيابة إلى القضاء، بما يسمح بإبقاء المتهمين قيد الحبس تحت مظلة قانونية مختلفة. ويضيف أن المحاكم لن تتمكن من نظر هذه الدعاوى في فترة زمنية معقولة، ما يعني عمليًا استمرار الحبس الاحتياطي لفترات طويلة.
ويؤكد نائب رئيس محكمة النقض السابق أن القضاء المصري يفتقر حاليًا إلى الاستقلالية الكاملة. ويشير إلى أن محاكم الإرهاب تنعقد داخل السجون، مما يحد من قدرة القضاة على رؤية المتهمين مباشرة أو مناقشة الشهود بحرية. ويضيف أن القضاة لا يتمتعون بالحد الأدنى من معايير الاستقلال وفقًا للمعايير الدولية، مشيرًا إلى أن من يجتهد منهم أو يتخذ موقفًا مستقلًا قد يواجه إجراءات تأديبية أو يُنقل إلى محاكم أخرى مثل محكمة الأسرة، مما يعزز سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء.
ويختتم دربالة تصريحه بالتأكيد على أن الممارسات الحالية تنال من نزاهة واستقلال القضاء، وتجعل المحاكمات عرضة للانتقادات المحلية والدولية، خاصة في ظل غياب الضمانات الأساسية التي تكفل حقوق المتهمين في محاكمات عادلة.
نوصي للقراءة: الحصانة القضائية: درع حماية أم سلاح للفساد في مصر؟
تكدس قضايا الإرهاب
يقول عضو بالمكتب الفني لمحكمة استئناف القاهرة، في تصريح إلى “زاوية ثالثة”، أن المحكمة تدرس حاليًا سُبل التعامل مع العدد الكبير من القضايا المحالة من نيابة أمن الدولة العليا إلى محاكم الإرهاب، خاصة في ظل وجود ثلاث دوائر فقط مخصصة لنظر هذه القضايا. وأوضح المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن هويته نظرًا لحظر التحدث لوسائل الإعلام، أن هذا التكدس أثار مخاوف لدى هيئات الدفاع بشأن قدرة المحاكم على توفير محاكمات عادلة في فترات زمنية معقولة.
ويؤكد المصدر أن حجم القضايا المحالة يفوق الطاقة الاستيعابية للدوائر الثلاث، مشيرًا إلى أن محكمة استئناف القاهرة تدرس إمكانية توزيع القضايا على دوائر جنائية أخرى، بخلاف دوائر الإرهاب، لتخفيف الضغط وضمان سير المحاكمات بشكل أكثر فاعلية. وأضاف أن هذا التوجه قانوني تمامًا ويخضع لتقدير رئيس المحكمة والجمعية العمومية، بعد العرض على المجلس الأعلى للقضاء.
كما يوضح أن جميع رؤساء محاكم الجنايات هم أعضاء بمحكمة استئناف القاهرة، وبالتبعية يجوز لهم النظر في قضايا نيابة أمن الدولة العليا، مما يسهل إعادة توزيع الملفات دون الحاجة لتعديلات قانونية معقدة.
يشير المصدر إلى أن قرار تخصيص ثلاث دوائر فقط لقضايا الإرهاب كان مبنيًا في الأساس على اعتبارات أمنية، لضمان حماية هيئة المحكمة والمتهمين، خاصة مع حساسية هذه القضايا. وقد تم تحديد مقر انعقاد هذه الدوائر في مجمع محاكم بدر، الملحق بمركز إصلاح وتأهيل مدينة بدر، لتأمين المحاكمات بشكل مشدد.
ويختتم المصدر بأن المحكمة تعمل حاليًا على موازنة البُعد الأمني مع ضرورة تسريع الإجراءات القضائية، في محاولة لضمان عدالة المحاكمات دون الإخلال بالضوابط الأمنية المطلوبة.
يشار إلى أنه في أعقاب عزل الرئيس الراحل محمد مرسي في 3 يوليو 2013، شنت السلطات حملة أمنية موسعة ضد جماعة الإخوان المسلمين والمعارضين لقرار العزل، أسفرت عن اعتقال عشرات الآلاف، خاصة بعد فض اعتصامي رابعة العدوية بمدينة نصر والنهضة بالجيزة. وتولت نيابة أمن الدولة العليا التحقيق في مئات القضايا حتى ديسمبر من نفس العام، حين قررت محكمة استئناف القاهرة تأسيس 6 دوائر إرهاب بمحاكم جنايات القاهرة الكبرى، خصصت للنظر في القضايا المرتبطة بجرائم الإرهاب وأحداث العنف، مع إعفائها من النظر في أي قضايا جنائية أخرى، بهدف تسريع الإجراءات القضائية.
مع تزايد أعداد قضايا الإرهاب والموقوفين، قررت المحكمة زيادة عدد الدوائر إلى 7 في عام 2014، ثم إلى 9 دوائر بحلول 2018، لتشمل بذلك كافة المعارضين السياسيين والنشطاء والإعلاميين وأصحاب الرأي المناهض للنظام.
ومع بداية عام 2019، شهدت الأمور تهدئة نسبية، حيث تراجعت أعداد القضايا المحالة من نيابة أمن الدولة إلى دوائر الإرهاب، وأصبحت العديد من القضايا “مجمدة” قيد التحقيقات. على إثر ذلك، قررت محكمة استئناف القاهرة في نوفمبر 2019 إلغاء 4 دوائر، والإبقاء على 5 فقط.
وفي نوفمبر 2023، أعادت المحكمة تقليص عدد دوائر الإرهاب إلى 3 فقط، مقرها مجمع محاكم بدر، في خطوة اعتُبرت تهدف إلى تعزيز الإجراءات الأمنية، ولا تزال هذه الدوائر قائمة حتى الآن.
نوصي للقراءة: مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد: خطوة نحو العدالة أم تقييد للحريات
شرعية دوائر الإرهاب
رغم الانتقادات المتزايدة، تواصل العمل في دوائر الإرهاب، التي وصفها المستشار محمد عوض، رئيس محكمة استئناف طنطا السابق، بأنها تتعارض مع أحكام الدستور المصري. وأوضح في تصريحات صحفية أنّ المحاكمات يجب أن تُجرى أمام محاكم طبيعية تلتزم بمبادئ العدالة والنزاهة، بينما تُعتبر الدوائر المتخصصة بقضايا الإرهاب محاكم استثنائية محظورة، شأنها في ذلك شأن المحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة طوارئ التي أُنشئت خصيصًا لمحاكمة المعارضين. وأكد عوض أنّ القاضي الطبيعي هو وحده من ينبغي أن ينظر هذه القضايا، بشرط أن تتوافر فيه مقومات الاستقلال والكفاءة، بعيدًا عن أي توجيه خارجي.
في السياق ذاته، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرًا انتقدت فيه دور نيابة أمن الدولة العليا والمحاكم الاستثنائية في مصر، حيث صرّح فيليب لوثر، مدير البحوث وكسب التأييد للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمنظمة، أن “نيابة أمن الدولة العليا، وقطاع الأمن الوطني، ودوائر الإرهاب، أصبحوا بمثابة نظام قضائي موازٍ لاعتقال المعارضين السلميين، والتحقيق معهم، ومحاكمتهم”. وأضاف أن هذا التطبيع لدور نيابة أمن الدولة يشير إلى حالة استثناء دائمة تُعطل الحقوق الأساسية، مثل الحق في الحرية، والمحاكمة العادلة، والحماية من التعذيب، في حال الاتهام بـ”الإرهاب”.
كما تناولت أبحاث قانونية انتقادات مشابهة، أبرزها دراسة بعنوان “دوائر الإرهاب: تحول القواعد الجنائية الاستثنائية إلى قواعد دائمة”. وأشارت الدراسة إلى أن دوائر الإرهاب تُعتبر استمرارًا لدوائر محاكم أمن الدولة العليا التي كانت قائمة في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، تحت مظلة قانون الطوارئ، الذي أُلغي عقب ثورة 25 يناير 2011.
مع استمرار الانتقادات المحلية والدولية وتزايد القضايا المحالة للمحاكم، تظل التخوفات قائمة في ملف المحبوسين احتياطيا، بشأن ما إذا كانت السلطات ستلتزم بتنفيذ توصيات لجنة الحوار الوطني والمطالبات الحقوقية والمجتمعية. ويبقى التساؤل حول قدرتها على إغلاق ملفات المحبوسين احتياطيا، مع ضمان تقديم محاكمات عاجلة تلتزم بالقواعد القانونية الدولية، وتوفر للمتهمين كافة حقوقهم الدفاعية. في المقابل، يتخوف البعض من أن تكون هذه الخطوات شكلية فقط، بحيث ينتقل الحبس من النيابة العامة إلى ساحات المحاكم دون تقديم حلول جذرية، لتبقى القضايا متداولة لسنوات أخرى، مما يؤدي إلى استمرار معاناة المحبوسين احتياطيا لفترات طويلة.